ما أن سُمع صوت انفجار صاروخ إسرائيلي بالقرب من مدرسة جباليا الإعدادية التي تأوي مئات النازحين في مخيم جباليا حتى خفق قلبها وهرعت لإنقاذ الجرحى، لحظات قليلة ووصلت أقدامها لباب المدرسة، لتصاب بأكبر صدمة قد تمر على الإنسان، "ساحة المدرسة تحولت إلى برك من الدماء، وجثث النساء والأطفال ألقيت بين الصفوف الدراسية، وأشلاء التصق بعضها على الجدران".
وضعت الممرضة يدها على فمها وحبست أنفاسها، ثم تركت جسدها يرتجف خوفًا وعينيها امتلأت بالدموع حتى انفجرت من هول الصدمة واختلال الرؤية، وفظاعة المشهد، تقول: "مين هادا الشاب.. يا ربي يا ربي محدش قادر يحكي".
سرعان ما تقدمت الممرضة بخطوات مرتبكة، تنظر يمنى ويسرى، وبيدها اليمنى حقيبة الإسعافات الأولية بينما تُمسك بمقبض يدها اليسرى هاتفها المحمول، لتقفز وسط بركة الدماء وجثث الشهداء، ومن هول وفظاعة المشهد ألقت ما بيدها اليمنى لتوثق بعدسة هاتفها أبشع جريمة ممكن أن تمر في سجلها الصحي، فقد تلون زيها بلون الدم والدخان الأسود ورائحة البارود.
حاولت تقديم الإسعافات اللازمة؛ لكن المجزرة التي وقعت في المدرسة أكبر من قدراتها وامكانياتها، ولم يكن أمامها إلى أن تصرخ من أعماق قلبها، وتنادي على مسمع الجثامين "مصعب؟! يا ربي ع اللي بصير فينـــــا".
تحاول الممرضة توثيق ما تشاهده عينيها، فأينما تولي وجهك فهناك أشلاء متكسرة، بقايا جماجم لا رؤوس، آخر قطرة دم تنزف من فم أحدهم، أصبع سبابة متبقٍ قبل نطقه بالشهادتين، تصدعت جدران المدرسة بصوت الممرضة في وجه بقية النازحين: "اطلعوا من المدرسة كلكو.. اطلع يا محمد ح يضربوها كمان مرة".
طفل -ربما لم يعد طفلاً- بعدما عاش البؤس والفجيعة، أمام عشرات الأطفال والأمهات اللواتي يداوين جراح أطفالهن بمناديلهن، بأثوابهن، أو ببقايا أثوابهن، يستصرخ الطفل بالممرضة بأن تجلب إسعافًا لذويه "اتصلي على إسعاف.. كلمي إسعاف" فإذا بالممرضة بسيل من الضحايا أمامها وهي تقف عاجزة عن الوصف والتشخيص ولا أظن بشريًا يمكنه أن يجرب هذا الشعور عندما ردت عليه: "مش قادرة أسعف مش قادرة يا عالم".
إنها شهادة حية على جريمة مكتملة الأركان، وبات على الكل الفلسطيني ممرضا كان أو مريضا أن يتجرع كأس الفواجع وبات قميص التمريض والطب قماشًا يكتب عليه بالدم أسماء من مروا من الشهداء.
مشاهد مؤلمة وثقتها ونشرتها إحدى الممرضات، إذ ارتكب جيش الاحتلال مجزرة مروعة بحق النازحين في مدرسة جباليا الإعدادية وراح ضحيتها العشرات من الشهداء المدنيين العزل، وقد أُجبرت الممرضة على النزوح من جباليا إلى غرب مدينة غزة وتركت خلفها جثامين الشهداء داخل أسوار المدرسة بعدما حاصرتها قوات الاحتلال وأجبرت من فيها على النزوح قسرًا.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام