بقلم/ فايز أيوب الشيخ
لا أكاد أصدق، حتى يومنا هذا، أن الاحتلال اندحر من قطاع غزة، فكلما مررت بجانب تلك البؤر الاستيطانية التي كانت جائمة عليها، أو وطأت قدماي أرضها المحررة، ينتابني شعور غريب لا يمكن وصفه، مستدعيا في ذاكرتي دماء الشهداء والجرحى وتضحيات ومعاناة كل أبناء شعبنا لأجل هذه اللحظة التاريخية.
وفي نفس الوقت أشعر بالفرح والفخر ونشوة الانتصار التي عشتها وعايشها كل أبناء شعبنا، يوم أن رفعنا العلم الفلسطيني فوق الركام، مكبرين مهللين بهذا الفتح الكبير.
غير أنه إلى يومنا هذا، هناك "البعض" ممن يضحكون على أنفسهم ويضللون غيرهم، محاولين التقليل من هذا الشأن الكبير، بوصفهم لهذا الاندحار بأنه "انسحاب أحادي" وهو يعلمون يقينا، أنه ما كان لقادة العدو السابقين او الحاليين أن يتخلوا عن عقيدتهم وعنجهيتهم في اعتبار أن أي بقعة من فلسطين هي ضمن الوطن القومي المزعوم لليهود واعتبار "غزة ك تل آبيب".
أحيانا أتعجب من هذه "الفئة" التي تحاول تقزيم أي انجاز لشعبنا ومقاومته، وأسأل نفسي" هل لأن ديانتهم أو هويتهم أو انتماؤهم مختلف عنا.!؟، فكل ما سبق اجاباته واضحة لا لبس فيها وهي أنهم "مسلمين، فلسطينيين، وينتمون لهذا الوطن، شئنا أم أبينا".. إذا أين الخلل يكمن في معتقدات هذه الفئة؟.
الخلل-من وجهة نظري المتواضعة- أن هؤلاء، وثقوا في "اتفاقية أوسلوا" التي تحل ذكراها العقيمة متزامنة مع ذكرى الاندحار الصهيوني من غزة.
فالخلل هو يوم أن سمح "البعض الأول" لعرابين أوسلو بإخماد الانتفاضة الأولى ورضوا بغزة وأريحا أولا نهجا للسيادة المشتركة والتنسيق الأمني، واذكر حينها ما كان ليترى تحصيل باقي المحافظات الأخرى في الضفة الغربية، لولا العمليات الاستشهادية للمقاومة في قلب الكيان المحتل، و التي أجبرت الاحتلال على التسليم محافظة تلو الأخرى، يوم أن تنكرت (إسرائيل) للسلطة عن تنفيذ بقية بنود أوسلو.
ولكن ذلك كان مقابله ملاحقة ومحاربة المقاومة بشتى الوسائل القمعية والنجاح جزئيا في انحسارها عام ١٩٩٦، وكل ما تبعها من تفكيك لأجنحة المقاومة وسحب سلاحها وتنامي التنسيق الأمني مع الاحتلال في كل صغيرة وكبيرة، إلى حد تسليم المقاومين من كافة الفصائل باليد لأجهزة الاحتلال والبناء على تحقيقات أجهزة السلطة في سجونها.
الشواهد والتفاصيل كثيرة في تلك الحقبة، حتى تحررت غزة بتوفيق من الله، ثم بفعل مقاومة شتى الفصائل، وما تلاها من انتخابات ٢٠٠٦ التي أفرزت نتائج غير مرضية لجميع الأطراف المعادية للمقاومة، وما هي إلا أشهر قليلة حتى انزلق الطرف الفلسطيني الخاسر لهذه الانتخابات "فتح" إلى الانقلاب على نتائجها، ما حذا بالطرف الفائز "حماس" للدفاع عن استحقاقه الشعبي، إلى قلب الطاولة، والدخول في حصار و انقسام ما زال شعبنا أسيره منذ ١٤ عاما.
وسردا لما سبق، عايش كل أبناء شعبنا عدوانا صهيونيا قاسيا، وخاض شعبنا ومقاومته في غزة حروبا ثلاثة، خلفت آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، فضلا عن التدمير والتخريب الذي حل بالبنية التحتية والاقتصادية للقطاع ومضاعفة الحصار والبطالة والفقر، إلا أن ذلك كله لم لم يثني شعبنا ومقاومته على الصمود، أو الاجبار على رفع الراية البيضاء والتسليم للمعتدين والمحاصرين، وهذا في حد ذاته هو " الانتصار" الذي يصر " البعض الاول" على انكاره، و تجاهل دور المقاومة في كسر شوكة الجيش الذي لا يقهر، في مواقع ومحطات عديدة ومنها تحرير مئات الأسرى في صفقة "وفاء الأحرار" المشرفة، ومازالت المقاومة مجتمعة في ميدان غزة العزة، تعد العدة وتخوض جولات من التصعيد الصهيوني المتلاحقة، لنجني شعبنا ويلات العدوان ما أمكن، وانتزاع بعضا من الحقوق الفلسطينية من بين براثن الاحتلال "خاوة"، وبالمقابل أيادي المقاومة مكبلة في الضفة المحتلة في الوقت الذي يستبيح فيه الاحتلال الدم الفلسطيني ويستولي على المزيد من الأراضي والمقدسات.
فبعد ٢٦ عاما .. على ماذا يعلق "البعض الأول" آمالهم، بعد أن فشل خيار قيادتهم العبثي، وبعد أن انكشفت سوأة حلفاءهم من الأنظمة العربية المطبعة، التي ورطتهم بأوسلو ونهج المفاوضات والسلام الهزيل والحصار الطويل لشعبهم، أما آن لهم أن يتخلوا عن عنادهم وينسلخلوا عن معتقداتهم القديمة والاصطفاف بجانب شعبهم والعودة لخيار الوحدة والمقاومة على قلب رجل واحد، وإثبات أن الشعب الفلسطيني حر وقضيته محورية في كل الحقب والأزمنة، وحتما سيحقق الوعد والنصر الأكبر.