قلم: علاء مطر
بعد أيام من الإفراج عن الأسير رشدي أبو مخ من سجون الاحتلال، أجلس لوحدي أضع نفسي مكانه، أحاول التفكير فيما حدث معه، فلم أجد كلمات تعبر عن أي شيء، فلا الكلام يفي ولا العبارات تشفي، ولم أجد ما أكتبه سوى بضع سطور أحاول فيها ترجمت ما شاهدت...
أطل برأسه نحو الوطن من خلال نافذة السجن، أمعن النظر في الغيمات السماوية القطنية، ارتسمت على شفتيه ابتسامة صغيرة ممزوجة بغصة قلبية عندما رسمت الغيمات وجهه قبل خمسة وثلاثين عاما، تمنى فيها أن يصعد نحو السماء وهو شاب حتى يعانق السماء وينزل مع حبات المطر على أرض دفع ثمنها من عمره خمسة وثلاثين عاما.
عاد إلى سريره في الزنزانة، يسند ظهره على حديدة حفظ تفاصيلها طيلة أعوام سجنه، أغمض عينيه وتاه في خياله، كيف أمضى كل هذه الأعوام بين الجدران، كيف جرت الأيام، لا يعرف هل يعود بالذاكرة للخلف ويستذكر بداية اعتقاله، أم يطلق عنانه لعد الدقائق ورسم صورة الاستقبال لحظة الحرية.
تسابقت الثواني، وعدت الساعات، وجاءت لحظة الحرية، وكانت قمة الوجع، أن تجد بضعة من أحبابك فقط هم من ينتظرونك في الاستقبال، لا حضن أم، ولا عناق أب، ولا زوجة ولا أبناء، يمشي بالكاد بشعره الذي ابيضّ من شدة ظلمة السجن، تجاعيد وجهه رسمت خريطة فلسطين التي سجن لأجلها.
خمسة وثلاثون عاما.. تحتاج إلى مثلها بل وأكثر كتابةً للتعبير عن وجع أسير، سُجِنَ في عهد ثورة أبو إياد، وعنفوان أبو جهاد، وزعامة أبو عمار، وهندسة عياش، وحكمة حبش.. وبعد ثلاثة عقود ونصف، كانت صدمة المفارقة بين ما سُجِنَ في عهده وبين ما أصبح عليه الوطن من تفاهمات في غزة وتنسيق أمني في الضفة، وصفقة قرن تأخذ ما تبقى من القضية.
ابتسم وجلس بهدوء يستقبل المهنئين، يحاول أن يتذكر الأماكن التي تركها طوال فترة السجن، وبعفوية أجاب على إحدى أسئلة الصحفيين :" أنا لم أتحرر.. أنا أنهيت محكوميتي 35 عاما و12 يوم وهذا لا يسمى تحرر، فلم يحررني أحد!"، عفوية نطقها ضرب بها جميع الفصائل بأذرعها العسكرية عرض الحائط، مزق شعارات التنظيمات، وبدد خطابات المسؤولين، ولسان حاله يقول "محدش يحملني جميلة".
الوجهة الأولى للأسير مسقط رأسه وزيارة قبر والدته، وفي حضرة الموت والفراق، يجلس على ركبتيه، يسند رأسه على الشاهد، يحضنه.. يبكي بحرقة، يحدثه بخلجات صدره، يطبق أصابعه عليه غضبا وقهرا، ولا حديث سوى الصمت.. كلمات تتحشرج في عنقه، بالكاد تقدر على التعبير والحديث الممزوج بالدموع "كان من المفروض أن تكون بيننا.. لا أستوعب.. انتظرتني 33 عاما وعاشت على الحلم والأمل بحريتي وزفافي لكنها لم تتحمل معاناة الأسر والفراق والتنقل بين السجون".
الأسير رشدي أبو مخ، خرج بعد أعوام السجن من دفء مَنْ لازموه بالسجن عقودا، إلى برودة الوطن المسروق حيث لا صقيع، ولا هواء، ولا مطر، خرج ليشعرنا بالخجل، كشف خذلان القيادات بحقهم، وفتح جروح مأساة باقي الأسرى الذين لا تشعر بهم الكلمات ولا ترتيب الحروف، سوى كلمة "سامحونا لتقصيرنا"..