قبل نحو ألف عام في مرتفعات مملكة "كيفا" التي تُعرف اليوم بدولة إثيوبيا، أكلت قبائل "الأورومو" التي كانت تستوطن ذلك المكان كرات البن المسحوقة والمخلوطة بالدهن، لنفس السبب الذي نشرب من أجله القهوة الآن، النشاط وزيادة التركيز.
وفي القرن السابع الميلادي، انتقلت تلك الحبوب إلى اليمن، وهناك حمّصها العرب وكتبوا أنها مفيدة في إطالة ساعات العمل، ومنها انتشرت الحبوب المُحمصة إلى سائر البلاد العربية، ثم إلى كافة أنحاء العالم، لتُعرف باسم "أرابيكا" أو البن العربي.
اقتصاد مُهدد
والآن تُعد القهوة أحد أكثر المشروبات المنتشرة في العالم، إذ تقود صناعة تدر مليارات الدولارات وتدعم اقتصاد العديد من البلدان الاستوائية، وتوفر سبل العيش لأكثر من 100 مليون مزارع. إلا أن سلاسل توريد القهوة تواجه تحديات، بما في ذلك التقلبات الدورية في الأسعار، والتغير المناخي، وانتشار الآفات والأمراض.
ولأن زراعة القهوة الناجحة مُحددة ضمن غلاف مناخي ضيق نسبياً، يكون عرضة لاضطرابات الطقس طوال دورة نموها وحياتها، مما يجعلها حساسة لتغير المناخ.
ويُنظر إلى حماية سلسلة التوريد من المستقبل في ظل تغير المناخ، على أنها هدف رئيسي لقطاع البن، ولكن لم يكن هناك سوى تقدم محدود حتى الآن.
ويحاول الباحثون والمزارعون نقل زراعة البن إلى مناطق ذات سمات مناخية مختلفة، واستخدام الري أو التظليل وتطوير محاصيل بن مقاومة للمناخ.
وبحسب دراسة جديدة نُشرت في دورية "نيتشر بلانت"، تم العثور على أنواع نادرة من القهوة لها نكهة مماثلة للأصناف التي يفضلها مزارعو البن لجودتها العالية "نكهة أرابيكا"، ولكنها أيضاً أكثر تحملاً لدرجات الحرارة المرتفعة والأمطار الغزيرة التي أصبحت نموذجية بشكل متزايد لمناطق زراعة البن.
العديد من أنواع القهوة المفضلة تنمو فقط في نطاق ضيق من الظروف، ما يعني أنها قد لا تعيش إذا ارتفعت درجات الحرارة. في الواقع، نحو 60% من أنواع البن البري تواجه الانقراض.
ويقول المؤلف الرئيسي للدراسة "آرون ديفيس"، كبير الباحثين في الموارد النباتية بالحدائق النباتية الملكية بالمملكة المتحدة، إن هذا النوع "ليس جديداً" إلا أنه "نادر في البرية"، إذ كان الباحثون يظنون أنه انقرض في سيراليون "ولكننا عثرنا على مجموعة من أشجاره في نهاية عام 2019".
مذاق رائع
وبمقارنة ذلك النوع بالقهوة عالية الجودة من نوع "أرابيكا" والقادمة من إثيوبيا، ونوع آخر متوسط الجودة جاء من البرازيل، ونوع ثالث من قهوة "روبوستا" عالية الجودة تُزرع في إندونيسيا، وجد الباحثون أن "الستينوفلا" لها شكل نكهة معقد وتتمتع بحلاوة طبيعية وحموضة متوسطة إلى عالية، كما هو الحال في "أرابيكا" عالية الجودة.
وفي تجربة معملية، تناول مجموعة من خبراء تذوق البن عدداً من فناجين قهوة مصنوعة من العينات الأربع (من دون أن يعرفوا مصدرها). وطلب منهم تحديد نوعية البن، فقال 81% من الحكام إن "الستينوفلا" نوع عالي الجودة من بن "أرابيكا" مقارنة بـ 98% لـ"أرابيكا" من إثيوبيا، و 44% لـ"أرابيكا" من البرازيل، و 7% لـ"روبوستا" من إندونيسيا.
وعلى الرغم من النسبة المئوية العالية الشبيهة بـ"أرابيكا" لـ"الستنوفلا"، إلا أن 47% من الحكام اعتبروا العينة نوعاً جديداً، 53% لم يفعلوا ذلك.
إنقاذ الصناعة
وعلى الرغم من أن التشابه الحسي مع أرابيكا "مدهش ورائع"، إلا أن "ستينوفلا" ليس لها علاقة قرابة وثيقة مع "أرابيكا". إذ توجد مجموعات "أرابيكا" الأصلية و"ستينوفلا" على جوانب متقابلة من القارة الإفريقية، ومفصولة بمسافة لا تقل عن 4000 كيلومتر. كما تختلف المتطلبات البيئية لهذين النوعين اختلافاً كبيراً كما أن كيمياء البذور (حبوب البن) ليست هي نفسها، على الرغم من مشاركة بعض المكونات الكيميائية الرئيسة.
ويُمكن أن ينمو ذلك النبات النادر في درجات حرارة تبلغ 26 درجة مئوية، فيما لا يجب أن تزيد درجة الحرارة اللازمة لنمو شجر "أرابيكا" على 19 درجة مئوية.
ويشير ديفيس في تصريحات خاصة لـ"الشرق"، إلى أن ذلك النوع "قد يكون سبباً من أسباب إنقاذ صناعة القهوة في العالم، إذ يتميز بقدرته الكبيرة على مقاومة التغيرات المناخية وتتشابه نكهته مع النكهة المفضلة لمحتسي القهوة.. نكهة أرابيكا الراقية".
قبل تلك الدراسة، لم تكن هناك معلومات متوفرة عن تلك الشجرة، وتوجد معلومات حسية منشورة عن ذلك النوع منها منذ اكتشافها في عشرينيات القرن الماضي، ربما بسبب ندرة زراعتها وندرتها في البرية.
مواجهة تغير المناخ
وتقول الدراسة، إن ذلك النوع "يؤمن مستقبل المشروبات ذات المذاق الرائع في مواجهة تغير المناخ". فالقهوة النادرة من النوع ضيق الأوراق (Coffea stenophylla) وتنمو في غرب إفريقيا وتستطيع تحمل درجات حرارة أعلى بكثير من قهوة "أرابيكا" التقليدية.
ومع ارتفاع درجة حرارة العالم، يمكن أن تساعد المزارعين الذين تعتمد سبل عيشهم على توفير قهوة عالية الجودة للصناعة العالمية كما يمكن زراعتها تجارياً في أماكن أكثر دفئاً من "أرابيكا" واستخدامها مورد تكاثر لإنتاج محاصيل جديدة قادرة على التكيف مع المناخ لتلبية رغبة العالم في فنجان قهوة جيد.
وتمثل قهوة "أرابيكا" حالياً 56% من الإنتاج العالمي للمشروبات، ولكنها تأتي من مرتفعات إثيوبيا، وجنوب السودان في البرية، وتنمو في ظروف استوائية باردة.
المصدر/ الشرق