ما زال المقدسيون يثبتون للعالم بأسره يوماً بعد آخر، أنهم الأقدر على الدفاع عن مدينتهم وهويتهم وكرامتهم، وأنهم متشبثون بأرضهم، قائمون بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، أو خالفهم، أو تآمر عليهم من متخاذلين أو مطبّعين!
ففي معركة باب العامود المستعرة منذ بداية رمضان المبارك، سطّر المقدسيون، دروساً في قيم الوحدة والتضحية والفداء والانتماء، ما جعل الاحتلال يعيد حساباته، ويرجع خطوة إلى الوراء، مُذعناً أمام صمود وبسالة المقدسيين؛ ليقرر صاغراً رفع الحواجز العسكرية من باحات الباب المقدسي الذي بات بمثابة "الحاضنة" الاجتماعية للمقدسيين.. فيها يجتمعون ويتسامرون، وأيضا يقارعون الاحتلال ويقاومون.. وينتصرون!
ويعدّ باب العامود الشريان الرئيس المؤدي إلى أسواق البلدة القديمة التي تقع في صلب وجوهر مخططات الاحتلال لخنقها وإغلاق متاجرها، ليسهل عليه السيطرة عليها؛ ليضيفها إلى قوائم العقارات المقدسية التي تم تهويدها او تلك التي باتت على قائمة "التهويد" عقب الاستيلاء عليها وطرد أصحابها منها، ليحول بذلك دون استمرار التدفق الاجتماعي للفلسطينيين القادمين من الداخل المحتل أو الضفة أو حتى المدينة المقدسة لتلك الأسواق التي تكافح من أجل الصمود والبقاء شوكة في حلق الاحتلال.
ومما سبق، فمن المؤكد أننا أمام معركة تتعدى مسألة السواتر والحواجز الشرطية الحديدية، في الباب المقدسي، الذي يستخدمه المستوطنون اليهود للوصول إلى حائط البراق لأداء صلواتهم التلمودية هناك، الأمر الذي يشكل تهديداً وخطراً أمنياً عليهم، ما يعني أننا أمام معركة لها دلالاتها ورمزيتها السياسية والجغرافية والدينية والوجودية.. معركة على التاريخ والهوية التي لا تقبل القسمة أو المفاصلة.. معركة على الوعي المتجذّر في وجدان المقدسيين خاصة، والفلسطينيين والمسلمين عامة، أن هذه الأرض لا يمكن أن تكون إلاّ فلسطينية عربية إسلامية، كما جاء من وحي السماء!.
وعليه، ونحن نشهد انتصارات إخواننا المقدسيين في معركة الثبات والصمود، أمام جبروت الاحتلال وصلفه، بدءاً من معركة البوابات الإلكترونية في يوليو 2017، مروراً بمعركة باب الرحمة في 2019، وليس انتهاءً اليوم في معركة باب العامود، لا بد من تسجيل بعض النقاط التي يجب أن تظل حاضرة في سياق معاركنا المفتوحة مع هذا الكيان الغاصب.
أولاً: أن شعبنا إذا ما أتيحت له الفرصة للمواجهة مع الاحتلال بعيداً عن تعقيدات السياسيين وارتهاناتهم وحساباتهم الضيقة، فإنه حتماً قادرٌ على صنع الإنجازات وتحقيق ما يظنه البعض أنه من المستحيلات، حيث بات يمتلك تجارب غنية، في كيفية التعامل مع مخططات الاحتلال، وآليات الوقوف في وجهها وإفشالها.
ثانياً: يثبت شعبنا سيّما في اللحظات الفارقة، والتحديات الفاصلة، التي تمس جوهر قضيته، أنه دوماً متقدّم على قيادته، وأنه صاحب المبادرة، وعنده فصل الخطاب، وأنه الأقدر على إدارة المعركة، والذود عن حياض الوطن في وجه المعتدين، ومن سار في فلكهم من المطبّعين.
ثالثاً: يجب ألا ننشغل بمشاهد النشوة بالانتصار في وجه "سياسة الحواجز" في باب العامود (على أهميتها في سياق معركة الوعي)، عن جذر القضية، فنحن وإن سجّلنا انتصاراً هنا أو انتصاراً هناك، فنحن ما زلنا أمام معركة مفتوحة مع الاحتلال، يجب أن نستخدم فيها كل ما نمتلك من أدوات وإمكانات، وعليه؛ يجب أن تظل كل الساحات مُشرعةً ومشروعة للاشتباك والمشاغلة معه، حتى لا ينعم بالهدوء والاستقرار للحظة واحدة، ولنتذكر جميعاً أن ما حققه عدونا خلال سنوات الانقسام البغيض، من نهب للأراضي في الضفة والقدس، واستفراد بأهالينا في الداخل المحتل، وحصار وتجويع وحروب في غزة، واختراق للعواصم العربية والإسلامية تحت راية "التطبيع والتطويع"، ما كان إلا يوم أن انشغلنا عنه بأنفسنا، لنتصارع على سلطة مزعومة، وسيادة منقوصة!
رابعاً: يجب اغتنام انتفاضة أهلنا في القدس، والعمل على تعزيزها وإسنادها من خلال برامج نضالية متكاملة تمتد لتشمل أماكن تواجد الفلسطينيين كافة، في الوطن المحتل، ومخيمات اللجوء والشتات، حتى نستطيع إعادة الاعتبار لقضيتنا التي باتت في أدراج النسيان بفعل الانقسام، بعد أن كانت قضية مركزية دونها دماء المسلمين وأرواحهم!.