جاء في أحد مشاهد الفيلم الأمريكي التاريخي (الإسكندر) كلاماً للفيلسوف أرسطو مُخاطباً الإمبراطور الإسكندر الأكبر، يقول فيه: "نحنُ اليونانيين أمةٌ مُختارة، ثقافتنا هي الأفضل، حضارتنا هي الأفضل، ورجالنا هم الأفضل، كل الآخرين برابرة، من واجبنا الأخلاقي أن نهزمهم ونستعبدهم، وندمرهم إذا لزم الأمر". مضمون هذه الفقرة يُلخّص عقيدة التفوّق العنصرية، ويختزل فكرة الاستعلاء الاستكبارية، وهي العقيدة والفكرة التي كانت ولا زالت تحكم الغرب الأوروبي بالشرق الآسيوي والجنوب الأفريقي منذ غزوات اليونان في القرن الثالث قبل الميلاد بقيادة الإسكندر المقدوني المعروف بالإسكندر الأكبر، مُسلّحاً بعقيدته الوثنية وفلسفته العنصرية، ومنذ غزوات الرومان شرقاً وجنوباً حاملين عقيدتهم الوثنية فالمسيحية وفلسفتهم الاستعلائية، مروراً بالغزو الصليبي في القرون الوسطى المُدجج بالحقد الديني والجشع الاقتصادي، والاستعمار الأوروبي في العصور الحديثة بصبغته الشريرة المتعددة الألوان وطبيعته العنصرية الاستعلائية، وصولاً إلى الاستعمار الأمريكي الجديد المُعاصر المُرتدي قناع العولمة.
العولمة شكل جديد للاستعمار بمضمون قديم يجمع بين عنصرية اليونان واستعلاء الرومان، ويدمج بين حقد الصليبيين وجشع الأوروبيين، وهو الاستعمار الذي حرّك جيوش الغزو الأوروبية بقيادة الإسكندر الأكبر (اليوناني)، وهرقل الأكبر (الروماني)، ونابليون بونابرت (الفرنسي)، وإدموند ألنبي (الإنجليزي)، وجورج بوش الابن (الأمريكي). لا اختلاف بين الغزوات القديمة الغابرة، وبين الغزوات الحديثة المُعاصرة، سوى في إضافة النكهة الدينية لعقيدة التفوّق الوثنية المُلخّصة بفكرة (شعب الله المُختار)، بعد اقتباسها من التوراة المُزيّفة ودمجها في الديانة المسيحية على يد الكنيسة البروتستانتية، فأنتجت أسوأ ما في الحضارة الغربية مُجسدّة في الصهيونية بشقيها المسيحي واليهودي، فكانت نتيجة هذا الزواج الشيطاني دولة (إسرائيل)، لتكون مركزاً للمشروع الاستعماري الغربي في قلب العروبة والإسلام. ولا اختلاف بين الغزوات القديمة والحديثة سوى في إضافة النكهة الحضارية بطعم الأخلاق، فتحوّلت الغزوات لعملية حضارية أخلاقية يتم فيها (ترقية) الشعوب (المُتخلّفة)، وتعمير الأراضي (البور)، ولا ضَيْر إنْ قُتِل وُهجّر واستُعبِد الملايين في سبيل هذا الهدف (النبيل). أليس هذا ما فعله المستوطنون الأوروبيون المسيحيون في البلاد التي أسموها (أمريكا)؟!، أليس هذا ما فعله المستوطنون الأوروبيون اليهود في فلسطين التي أسموها (إسرائيل)؟!.
بهذه الروح الشريرة والنفس الجشعة تحرّكت الولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة للعالم الغربي ووارثة حضارته، بطبيعتها الفردية النفعية، ونزعتها الاستعمارية الاستعلائية، وروحها الحربية الدموية، وعقدتها العنصرية في التفوّق العرقي والثقافي، واعتقادها بأفضلية حضارة الآنجلو ساكسون البروتستانتية، وسيطرة فكرة التفويض الإلهي لإنقاذ البشرية عليها، وامتلاكها لحق التضحية بالآخر لإنقاذ البشرية... بهذه الروح ألقى هاري ترومان القنبلتين الذريتين على اليابان، وغزا جون كنيدي فيتنام، وضرب دونالد ريغان ليبياً، وغزا جورج بوش الابن أفغانستان والعراق، ودمّر دونالد ترامب سوريا. وبهذه الروح بدأ جو بايدن رئاسته لأمريكا محاولاً إضفاء بُعداً أخلاقياً عليها عندما أعلن العودة للانخراط في قضايا العالم بممارسة القيادة الأخلاقية للعالم". التي وضحها في مقاله (لماذا على الولايات المتحدة أن تقود العالم؟) يتضمن رؤيته لبسط الهيمنة الأمريكية على العالم مرة أخرى، والسعي لدور أكبر لأمريكا في إطار العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وبذلك تكون العولمة مفهوماً مرادفاً للأمركة، ولكنها الأمركة بطعم البرجر.
الأمركة بطعم البرجر، تعني تعميم النموذج الأمريكي للأكل كرمز ومدخل لتعميم النموذج الأمريكي في كل مجالات الحياة، فالبرجر أو (الهامبورغر) هو وجبة الطعام الرئيسية التي تقدمها سلسلة مطاعم (ماكدونالدز)، البالغ عددها حوالي (34) ألف مطعم موزعين على (120) دولة، وهو نموذج واضح للعولمة أو الأمركة، من خلال تعميم النموذج الأمريكي في الأكل: طريقة عمله، وأسلوب تقديمه، وطقوس أكله، كوجبة طعام: فردية، وسريعة، ومتشابهة، ومُكررة، وكأنها تُشير إلى النزعة الفردية النفعية، والثقافة السريعة السطحية، والطريقة المتشابهة في إعادة إنتاج المعرفة دون خلقها، ونظام العمل المُكرر المُمل المُجرّد من بُعده الإنساني. وكوجبة طعام خالية من اللمسة الإنسانية وتفاوت الذوق البشري، وعابرة للقارات والقوميات والثقافات، كما يُراد لكل مفردات النموذج الأمريكي أن تكون كذلك. وفرض النموذج الأمريكي عبّر عنه الدكتور محمد عمارة، بقوله:" إنَّ العولمة هو الاجتياح الغربي بزعامة أمريكية لصب العالم في قالب الحضارة المهيمنة ولمصلحة أهلها". تماماً كما عبّر عن ذلك سابقاً الرئيس الأمريكي روزفلت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مستعلياً بنشوة النصر، بقوله: "إنَّ قدرنا هو أمركة العالم".
إذا كان قدر أمريكا هو أمركة العالم، فهذا ليس قدرنا كأمة عربية وإسلامية، فالسير مع القطيع في قافلة الأمركة ليس قدراً جبرياً ولا قضاءً قهرياً، فإنْ فُرض على الأمم ذات القابلية للاستعمار والاستحمار، والشعوب ذات الاستعداد للاستعباد والاستبداد، فلا يُمكن أنْ يُفرض على الأمم الحُرّة والشعوب الأبيّة، وأمتنا بما حباها الله برسالة حضارية، وما لديها من إمكانات ذاتية، تستطيع أن تختار قدرها بإرادتها الحُرّة وعزيمتها الصلبة، فتختار القوة والقدرة والتطور والتقدم، متجاوزة ما فُرض عليها من ضعفٍ وعجزٍ وتخلّفٍ وتأخُرٍ. وهي تستطيع أن تخرج من التبعية لتصنع فجر استقلالها، وتغادر الماضي لترسم ملامح مستقبلها، وتتحرر من ضيق التقليد إلى سعة التجديد، وتتمرد على قيود الاتّباع لتتنفس هواء الإبداع.
وأخيراً تستطيع الأمة أنْ تستحضر مفهوم التدافع الحضاري الإسلامي، بدلاً من مفهوم الصراع الحضاري الغربي، فتستبدل التنافس الحضاري بالتفاعل الحضاري، وتنافر الشعوب بتعارف الشعوب، وإلغاء إنجازات الحضارات غير الغربية بالبناء على تراكم إنجازات الحضارة البشرية. وهي تستطيع أن تستدعي مفهوم العالمية الإسلامي بدلاً من مفهوم العولمة الأمريكي، فتستبدل تناقض الثقافات بتلاقح الثقافات، وفرض النموذج الأمريكي على العالم بالالتقاء على القواسم الإنسانية المشتركة، وتعميم مزاعم التفوّق العنصرية بتعميم قيم الإخوّة الإنسانية. وعندما تصل الأمة إلى هذه المرحلة ستعيش العالمية الإسلامية بطعم العزة والحرية بعد أنْ تتمرد على الأمركة بطعم الذِلة والعبودية.