غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

من المقاطعة إلى إنهاء التبعية

لاتدفع ثمن رصاصهم

بقلم/ راغدة عسيران

قامت عدة جمعيات ومؤسسات فلسطينية في الداخل المحتل عام 1948 بحملة مقاطعة المنتوجات "الإسرائيلية" واستبدالها بالمنتوجات الفلسطينية المتوفرة، استمرارا للهبة الجماهيرية التي اندلعت دفاعا عن القدس والمقدسات، في شهر أيار/مايو الماضي. لقد تنبّهت جماهير الداخل الى أن مواجهة الكيان الصهيوني يجب أن تستمر، ولو بطرق أخرى، خاصة بعد القمع الهمجي الذي طال الآلاف في المدن والقرى المحتلة عام 1948 واعتقال الآلاف من الفلسطينيين بعد معركة "سيف القدس".

ليست هي المرة الأولى التي تتم فيها مقاطعة منتوجات العدو في الداخل، حيث انطلقت حملة مماثلة خلال انتفاضة الأقصى، وتوجّه الفلسطينيون الى البدائل المتوفرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، إضافة الى البدائل في الأسواق المحلية. ثم استمرت هذه الحملة في أوساط وطنية، مع مرور الوقت، حتى غدت نمط حياة اعتيادية لديها، ما يعني أن مقاطعة منتوجات العدو، أو حتى بعض مؤسساته، ليست ظاهرة استثنائية، رغم انحصارها بين الحين والآخر.

تكمن أهمية مقاطعة العدو، منتوجاته ومؤسساته وجمعياته المختلفة، بقدر الإمكان، كونها تقع في "عقر داره"، أي في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 والتي يعتبرها المجتمع الدولي كيانا شرعيا يدافع عنه ويدعمه سياسيا وعسكريا وماليا، وأن فلسطينيي 48 "مواطنون إسرائيليون". إضافة الى أن مقاطعة منتوجات العدو من قبل فلسطينيي الداخل تعني فصل ذاتهم عن المستوطنين وارتباطهم بتاريخهم وبشعبهم، في الضفة الغربية وقطاع غزة واللجوء، ما يعني التأكيد على هويتهم الوطنية من جهة في مواجهة العدو، وعلى عدائهم، من جهة أخرى، لمجتمع المستوطنين الذي سرق الأرض وهجّر الشعب وأقام كيانا احلاليا عنصريا على أرض فلسطين الوطن.

اعتبر المقاطعون في الداخل المحتل أنه يجب التوجه الى البديل، أي المنتوجات الفلسطينية، كما تدعو اليه حملة المقاطعة في الأراضي المحتلة عام 1967، لأن البديل ليس فقط موجودا، بل يجب دعمه وتنميته، والفصل قدر المستطاع بين الاقتصاد الصهيوني والاقتصاد الفلسطيني. إن كانت هذه المهمة سهلة نوعا ما، إذا توفرت الإرادة الفعلية لدى مؤسسات السلطة لمنع غزو المنتوجات "الإسرائيلية" الأسواق الفلسطينية، لا توجد حاليا مؤسسة وطنية جامعة في الداخل المحتل تأخذ على عاتقها هذه المسؤولية، إذ تبقى المبادرة رهينة التجمعات الشبابية وبعض القوى السياسية الواعية لأبعاد الصراع.

تعيد حملة المقاطعة في الداخل والبحث عن البدائل الوطنية الى الواجهة طرح الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح قبل أكثر من عقدين من الزمن حول "المجتمع العصامي"، والذي عملت من أجله سنوات طوال قبل ضرب الحركة وجمعياتها التنموية وغيرها من قبل الصهاينة.

"المجتمع العصامي" هو المجتمع الذي يحاول بناء ذاته وإمكانياته، سياسيا واقتصاديا وثقافيا، بعيدا عن مجتمع المستوطنين الأغراب. لم تلتفت وقتئذ القيادات السياسية والمجتمعية النافذة في المجتمع الفلسطيني، الى هذا الطرح، رغم ثوريته وإبداعه، فلم تر إلا نواقصه، بدلا من دعمه والمشاركة به. فالمجتمع العصامي" لا ينتظر الميزانيات الموعودة من السلطات الصهيونية للقيام بمشاريع تنموية، التي غالبا ما تكون مشروطة سياسيا، بل يبحث عن إمكانيات الصمود الذاتية، ما يزعج المؤسسة الصهيونية كما أزعجتها هبّة أيار/مايو الماضي، لأنها تظهر جليا فشل الصهاينة في استيعاب الفلسطينيين في مشروعهم الاستعماري، وإن كان استيعابهم كأفراد مهمشين بدون روح وهوية.

رغم اختلاف الأوضاع جذريا بين داخل كيان العدو وخارجه، تطرح حملة المقاطعة في الداخل والبحث عن البدائل الوطنية، مشروع إنهاء التبعية في الدول العربية، المطبّعة وغير المطبّعة مع كيان العدو، لأنها تتجه نحو البدائل الوطنية وتدعو الى تنميتها.

المقاطعة في الدول العربية تختلف أيضا عن المقاطعة في الدول الغربية، حيث تتخذ مقاطعة العدو أشكالا مختلفة، تبدأ بالمنتوجات الزراعية والصناعية (الأدوية مثلا)، ثم تتوسع الى الجامعات والمؤسسات الثقافية، حيث يتم الضغط على المؤسسة الغربية لعدم استقبال الأساتذة أو الفنانين الصهاينة، أو الضغط من أجل منع شركة أجنبية من العمل في الكيان ومساعدته في سرقة الأرض أو هدم المنازل... ولكن، بالنسبة لمقاطعة المنتوجات، لا يتم البحث عن بدائل، المتوفرة بكثرة في تلك الدول وتفوق منتوجات الكيان المستوردة.

فلذلك، لا ترتبط حملة المقاطعة في الدول الغربية بمسألة التنمية والتخلص من التبعية، كما هو الحال في الدول العربية، لأنها في الأصل، هي حملة سياسية وإعلامية، تهدف الى فضح جرائم الاحتلال.

في الدول العربية المطبّعة مع كيان العدو، تنافس المنتوجات "الإسرائيلية" المنتوجات الوطنية، كما هو الحال في الأسواق الأردنية (المنتوجات الزراعية خصوصا)، ما حث الجمعيات المناهضة للتطبيع على القيام بحملة مقاطعة، لأهداف سياسية (رفض وجود الكيان) واقتصادية (حماية المزارع الأردني) أكثر منها إعلامية، حيث أن الشعب الأردني يدرك تماما الطبيعة الإجرامية للكيان الصهيوني.

تهدف حملة "نزل القاطع" الأخيرة الى مقاطعة الغاز الفلسطيني المسروق الذي يبيعه الكيان الصهيوني الى الأردن بموجب اتفاقية الغاز المهينة الموقعة بين الكيان والنظام الأردني.

في الدول العربية غير المطبّعة مع الكيان الاستيطاني، والتي لا يستورد تجارها المنتوجات "الإسرائيلية"، ركزّت بعض حملات المقاطعة على الشركات الأجنبية التي تدعم كيان العدو ماليا واقتصاديا وسياسيا، دون الالتفات الى مسألة التخلص من التبعية، وكأنها مسألة أخرى خاصة بالاقتصاديين.

لم يتم البحث، في هذه الدول التي يعاني اقتصادها من أزمات مستمرة، عن البدائل للمنتوجات الأجنبية التي تغزو الأسواق، وهي غالبا منتوجات دول استعمارية وامبريالية تتحكم بالدول وتقيّض استقلالها السياسي، كالولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية. بقيت مسألة المقاطعة انتقائية، مرتبطة مباشرة بالصراع العربي الصهيوني (الشركات الداعمة للكيان)، وكأن النفوذ الغربي الامبريالي في هذه الدول لا يقيّد استقلالية قرارها بالنسبة الى هذا الصراع، وكأن التخلص من التبعية من خلال تنمية القدرات الذاتية (الاقتصادية وغيرها) لا يدعم الانسان العربي بشكل عام في تصديه للعدوان المستمر على المنطقة.

المقاطعة كاستمرارية للمعركة ضد العدو، كما يقوم به فلسطينيو الداخل اليوم، وكما قاموا به بالامس، هي المساهمة الأدنى لدعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ضد العدوان الصهيوني. إضافة الى أنها تعلن العداء لكيان العدو ومستوطنيه وتعلن العداء للغرب الصهيو-أميركي، المشارك في جريمة إقامة هذا الكيان على أرض فلسطين، المقاطعة هي أيضا أداة للتخلص من الهيمنة الغربية على بلادنا عندما تكون مرتبطة بالبحث عن البدائل الوطنية والعمل لتنميتها.

"جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "شمس نيوز".