أثناء الحملة الفرنسية على مصر والشام أصدر قائد الحملة نابليون بونابرت عام 1800م بياناً دعا فيه يهود العالم للهجرة إلى فلسطين لإقامة وطنهم القومي تحت الراية الفرنسية. وبعد أكثر من قرنٍ أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور عام 1917م بياناً عُرِف باسم وعد بلفور، تعهدت بريطانيا بموجبه بإقامة وطن قومي ليهود العالم في فلسطين. وبعد إعلان الحركة الصهيونية ولادة دولة (إسرائيل) سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بالاعتراف بها في نفس يوم الولادة، وتبعها الاتحاد السوفيتي بثلاثة أيام، ووزعت الدولتان القائدتان للغرب بشقيه الرأسمالي والاشتراكي الأدوار بينهما لإمداد (إسرائيل) بشريان الحياة، فأمدتها الأولى بالمال والثانية بالرجال، وكل الغرب أمدها بالسلاح والخبرات، فكانت الدولة الوليدة تتويجاً لحلفٍ استعماري جديد بدوافع دينية ووظيفية واستراتيجية.
الدافع الديني للحلف الاستعماري يعود إلى ظهور البروتستانتية في القرن السادس عشر الميلادي كحركة إصلاح ديني داخل الكنيسة الكاثوليكية، وكانت اليهودية جزء من هذا الاصلاح، فعلى الرغم من عداء مارتن لوثر لليهود كمسيحي، فقد وظّفهم في خدمة عقيدة الخلاص المسيحية، فاعترفت البروتستانتية بالعهد القديم (التوراة)، وتبنت الرواية التوراتية المزوّرة بأحقية اليهود في أرض الميعاد (فلسطين)، وضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، وسيطرتهم على القدس (أورشليم)، لبناء الهيكل الثالث مكان المسجد الأقصى، كشرطٍ مُسبق لعودة المسيح المنتظر، الذي سيقود (المؤمنين) في معركة (هار مجدون)، فيقتلُ الأشرار، ويُنصّر اليهود، ويحكم العالم ألف سنة سعيدة، يهيمنُ فيها المسيحيون على العالم، فكانت تلك الصهيونية المسيحية، التي أدت إلى نشأة الصهيونية اليهودية، فتحالفتا معاً لإقامة دولة (إسرائيل)، وعاصمتها (أورشليم) مركزاً ورمزاً لهذا الحلف الاستعماري بين الحضارة الغربية المسيحية والحركة الصهيونية اليهودية.
مُقابل حلف أورشليم المستند إلى أسطورة دينية كاذبة، ووعد بشري باطل، يوجد حلف القدس المستند إلى نبوءة دينية صادقة، ووعد إلهي حق، أعطاه الله – سبحانه تعالى- لمن يمتلك من الأمة الإسلامية شرطي الإيمان والقوة "عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ" ، بأنْ يُعطيهم شرف القضاء على العلو والإفساد الإسرائيلي الثاني في فلسطين كما قال تعالى في سورة الإسراء: "فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا". والوعد الإلهي في القرآن الكريم تُعززه السُنّة النبوية، التي أشارت في أحاديث نبوية كثيرة إلى وجود طائفة من المؤمنين المجاهدين في بيت المقدس (فلسطين)، وأكناف بيت المقدس (حول فلسطين)، يخوضون صراعاً مستمراً مع خُلاصة الشر (حلف أورشليم)، وهم متمسكون بحقوقهم، ومُستمرون في جهادهم، وقاهرون لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم وخذلهم من بني جلدتهم، حتى يأتي أمر الله ونصره في وعد الآخرة وهم كذلك، حتى يتم إنهاء علو وإفساد اليهود الصهاينة بدولتهم وحلفهم.
الدافع الديني لحلف أورشليم كان غطاءً للدافع الوظيفي للحلف، وهو حاجة الغرب للدولة الوظيفية في قلب الوطن العربي – الإسلامي، ومُلتقى قارات العالم القديم الثالث؛ ليكون دولة حاجزة بين جناحي الأمة العربية والإسلامية، ورأس حربة ضاربة للمشروع الاستعماري الغربي، وعاملاً مُعيقاً لأي شكل من الوحدة والاستقلال والنهضة في أُطرها الإسلامية والقومية والوطنية. وكما وصف المفكر المصري عبدالوهاب المسيري الدولة اليهودية الوظيفية أنها كانت نتيجة لعقد صامت وتحالف ضمني بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية، تقوم بموجبه الحركة الصهيونية بتهجير يهود الغرب إلى فلسطين؛ بهدف إقامة الدولة اليهودية الوظيفية الموالية للغرب والخادمة لمشروعه الاستعماري، مقابل أن يتكفّل الغرب بإقامة الدولة اليهودية وضمان استمرار وجودها، والحفاظ على أمنها واستقرارها، وإمدادها بكل أسباب الحياة والرفاهة... وبذلك يتم حل المشكلة اليهودية في الغرب، وإيجاد قاعدة متقدمة للمشروع الغربي في الشرق. وفي نفس الوقت تحقق الحركة الصهيونية أهدافها بتجسيد حُلم العودة اليهودي إلى أرض الميعاد.
إذا كان الدافع الوظيفي الاستعماري لحلف أورشليم يهدف إلى تبادل المصالح الاستعمارية بين المشروعين الاستعماريين الغربي والصهيوني، فإنَّ الدافع الوظيفي التحرري لحلف القدس يهدف إلى تحقيق المصالح العُليا للأمة العربية والإسلامية، ومحورها التقدم نحو الوحدة والاستقلال والنهضة، وهذه المصالح لا تتحقق إلاَّ بمقاومة المشروع الاستعماري الغربي، سواء الهيمنة الأمريكية على بلاد العرب والمسلمين، أو الكيان الصهيوني في فلسطين، ولا نجاح لأي مشروع سواء وحدة - إسلامية، عربية، إقليمية - أو استقلال سياسي أو نهضة اقتصادية بوجود الهيمنة الأمريكية والكيان الصهيوني كرأس حربة للاستعمار في المنطقة. فحلف القدس يُحقق للأمة وظائف تُنجز مصالحها العُليا، المرتكزة على أُسس الوحدة والاستقلال والنهضة، والمُعتمدة على توجيه بوصلة الأمة نحو القدس لتحريرها من الاحتلال، ونحو الكيان الصهيوني لإزالته من الوجود.
الدافع الوظيفي لحلف أورشليم قام على القوة العسكرية الإسرائيلية المدعومة غربياً، وبعد حرب أكتوبر عام 1973م، التي كادت (إسرائيل) أنْ تنهار أثناءها لولا تدخل الغرب وخاصة أمريكا، أدرك الحلف الاستعماري بعدها استحالة بقاء مركزه في العمق العربي- الإسلامي بدون شرعنة وجوده في محيطه البشري، فكانت بناءً على ذلك اتفاقيات السلام: كامب ديفيد، وأوسلو، ووادي عربةً، ولحقتها بعد زمنٍ اتفاقيات التطبيع، وكان آخرها اتفاقيات أبراهام وباكورتها بين الكيان والإمارات، وهي تتجاوز مفهوم السلام الذي يعني إنهاء حالة الحرب، ومفهوم التطبيع الذي يعني إقامة علاقة تعايش طبيعية‘ إلى مفهوم التحالف الاستراتيجي بين (إسرائيل) والأنظمة الحاكمة على أساس المصالح المشتركة والعدو المشترك (إيران ومحور المقاومة)، والتعايش السلمي بدون استرداد الحقوق، والسلام مُقابل السلام دون الأرض، وتبني الرواية الإسرائيلية للصراع بدل الرواية الفلسطينية، والدعوة للإسلام الأمريكاني المُهادن بديلاً عن الإسلام الثوري المقاوم.
حلف أورشليم الاستعماري وصل باتفاقيات أبراهام إلى ذروته الاستراتيجية بتجسيد (إسرائيل الكُبرى) بمفهومها الحضاري الشيطاني، ويقفُ على النقيض منه حلف حضاري إنساني هو حلف القدس التحرري، الهادف إلى تدمير مشروع (إسرائيل الكبرى) كخلاصة للشر في العالم، والمرتكز على مفهوم المقاومة بكافة صورها الثقافية والسياسية والعسكرية، وتجسيدها نظرياً وعملياً، والمُتحركة بمسارين متوازيين هما: مقاومة وإنهاء الهيمنة الأمريكية في المنطقة كآخر أشكال المشروع الاستعماري الغربي، ومقاومة وإزالة الكيان الصهيوني من المنطقة كمركز للمشروع الاستعماري الغربي وأخر أشكاله، والعلاقة بين هذين الهدفين تكاملية تبادلية، فتحقيق إنجاز في أحدهما يؤدي إلى تحقيق إنجاز في الآخر. وحتى تحقيق هاتين الغايتين، فإنَّ أمام الحلف التحرري مهمتان، هما: إبقاء الكيان الصهيوني كياناً غير شرعي ومعزول وغير مستقر من جهة، ومواصلة استنزاف الاستعمار الأمريكي وسحب الأرض من تحت أقدامه لتقليص أماكن نفوذه من جهة أخرى... وقد حقق الحلف إنجازاتٍ مهمة في كلا الاتجاهين.
وأخيراً بالمقارنة بين الحلفين يُمكن القول بيقين تام أنَّ حلف القدس لديه من قوة الحق ما يضمن استمرار تقدمه حتى إنجاز هدفه بالقضاء على المشروع الاستعماري الغربي، وتحرير القدس وفلسطين، وطرد الأمريكان والغرب، وقوة الحق تستند إلى وحدة مستضعفي العالم الأحرار، ووحدة الأمة الإسلامية، ووحدة القومية العربية، ووحدة صف المقاومين، ووحدة بوصلة الجهاد نحو القدس. ورحم الله المفكر الشهيد فتحي الشقاقي عندما استشرف برؤيته المنهجية حتمية تقدم حلف القدس قبل أكثر من أربعين عاماً، حين تحدث عن المجموعات الجهادية وهي: " تأتي من تخوم بيت المقدس تبدع مسيرتها وتكبر فوق هذا المحور المقدس – القدس طهران - الذي سيميز الطيب من الخبيث، ويرسم ملامح الصعود الإسلامي العظيم".