بقلم/ منيب المصري
هذا ليس خيالاً وإنما حقيقة، نعم هي حقيقة، لا بل هي «ملحمة جلجامش» بنسختها الفلسطينية، أحفاد الكنعانيين الذين قاوموا الغزاة على مدار قرون من التاريخ، وبقوا صامدين متمسكين بأرضهم، هم النار التي أذابت ثلج الغزاة، وهم النار التي أحرقت آمال وأطماع كل من جاء غازياً إلى أرض كنعان، هؤلاء الأبطال الستة فرسان الحرية وصانعو الأمل، هم امتداد طبيعي للقصة السردية الفلسطينية، وهم مثالٌ حي لطائر العنقاء الفلسطيني الذي كُلما أحرقوه نهض من جديد ليحلّق في فضاء هذه الأرض التي لن تكون يوماً عاقراً وستبقى تنجب الأبطال، لا بل ستبقى تصنع المستحيل في طرق التحرير.
كنت جالساً في بيتي «بيت فلسطين» على قمة جبل جرزيم في مدينة نابلس، في زاوية سمّيتها الحديقة الصخرية والتي تحوي صخوراً وأحجاراً متنوعة جمعتها من أرض فلسطين التي أحببت، هذه الصخور يفوق عمر بعضها خمسة بلايين عام، حينما سمعت عن «فرار ستة سجناء أمنيين» بحسب وصف راديو «مكان» الإسرائيلي في نشرته الإخبارية الصباحية، حينها لم أتمالك نفسي، ولا أعرف طبيعة الشعور الذي انتابني عند سماع هذا الخبر، ولكن الشيء الوحيد الذي أذكره أن جسمي تخدر مع ابتسامة فرح ودمعة، هؤلاء الأبطال لم يفتحوا لأنفسهم نفقاً ليتنفسوا الحرية، بل هم حفروا هذا النفق ليخرجونا من حالة اليأس إلى حالة الأمل بأن كل شيء بالعزيمة والإصرار والعمل يمكن تحقيقه.
قارب عمري التسعين عاماً وسمعت وشاهدت الكثير الكثير من قصص البطولة، وحكايات وأفلام الخيال، وعشت بعضها حين هرّبت الشهيد الراحل ياسر عرفات من جبال عجلون إلى درعا العام 1971 برفقة المرحوم عبد المجيد شومان، والسفير السعودي أحمد الكحيمي، وحين هرّبت الراحل هاني الحسن إلى العراق بعد شهر من تهريب الشهيد ياسر عرفات.
بحكم طبيعة عملي وتنقلي بشكل دائم بين بلدان العالم، ولقائي بالكثير من الشخوص بخلفيات ثقافية واجتماعية واقتصادية وعرقية مختلفة، إلا أنني لم أسمع في حياتي عن قصة حقيقية تُحاكي هذه البطولة التي تقترب من الخيال، فكيف لأشخاص عُزل أن يُحرروا أنفسهم من سجن أقل ما يقال عنه إنه شديد التحصين من حيث البناء ومن حيث منظومة المراقبة الإلكترونية والبشرية، كيف لهم أن يخرجوا من هذا السجن «الخزنة» كما يسمونه، دون أن يلحظهم أحد، كيف لهم أن يتجاوزوا هذه المنظومة الأمنية الأكثر تعقيداً وهم لا يملكون سوى الإرادة والتوق إلى الحرية، وضرب المنظومة الأمنية لهذه الدولة أو «دولة بيت العنكبوت».
كيف لهؤلاء الفرسان أن يحفروا نفقاً وهم لا يملكون إلا عزيمتهم، كيف لهم أن يشقوا الصخر وأن يخفوا ما يخرجونه من أتربة وحجارة دون أن يلحظهم أحد، كيف لهم أن يسيروا تحت الأرض في نفق نحو الكرامة والحرية دون أكسجين ودون ضوء ولم يفقدوا بوصلتهم نحو الحرية والكرامة، لا أحد يمكن له أن يصف هذا الفعل سوى الفاعلين أنفسهم، فهذه حكاية ما أجمل أن نسمع تفاصيلها ممن صنعها، هي ليست حكاية هي أشبه بالمعجزة، وهنا أتذكر قول الشاعر محمود درويش في قصيدته «مديح الظل العالي» حين قال:
بحرٌ لأيلول الجديد وأنت إيقاع الحديد
تدقُّني سحباً على الصحراء
فلتمطـــــر لأسحب هذه الأرض الصغيرة من إساري
لا شيء يكســـــرنا، وتنكسر البلاد على أصابعنا كفخارٍ
وينكسر المسدس من تلهفكَ.
انتصــــرْ، هذا الصباح، ووحد الرايات والأمم الحزينة والفصول
كلّ ما أوتيت من شبق الحياة،
بطلقة الطلقات ... باللاشيء.
وحدنــا بمعجزة فلســــــــطينيةٍ…
نعم هؤلاء الفرسان رغم كل الظروف التي أحاطت حفرهم للنفق، والتي أقل ما يقال عنها إنها أسطورة، إلا أنهم فعلاً لم يفقدوا بوصلتهم نحو الحرية، لم يستسهلوا الحفر في المكان الأقل صلابة بل حفروا نحو الهدف رغم العتمة ونقص الأكسجين والأدوات البدائية جداً، وأنا أقول لكم كجيولوجي زاول مهنة الحفر بأنك حتى تستطيع أن تحفر الصخر ذا الصلابة العادية بحفارة أنت بحاجة إلى «مقدح» بضغط لا يقل عن (800) كيلو، وبسرعة دوران لا تقل عن (150) لفة في الدقيقة الواحدة، ما فعلوه بالنسبة لي هو صناعة المستحيل، وأمر خارج عن تصور البشر وخارق للطبيعة الإنسانية، وبخاصة إذا ما أضفنا إلى كل ذلك قدرتهم على تجاوز المنظومة الأمنية وإخفاء ما ينتج عن الحفر، أقول أحياناً ربما أكلوا التراب ومضغوا الحجارة لكي يخفوا ما يفعلون، نعم إنهم شعب الجبارين شعب ياسر عرفات، الذي وحد الفلسطينيين، نعم هذا القائد الذي اختلف معه الفلسطينيون ولكن لم يختلفوا عليه أبداً، لأنه سلك طريق التحرير المحفوف بالمخاطر والموت والمغامرة لكي يوصلنا إلى آخر هذا النفق، لكي يوصلنا إلى النور... نور الحرية والوحدة، وهؤلاء الفرسان فعلوها، بأسنانهم وأظافرهم وإرادتهم، كيف لا وهم أبناء شعب الجبارين أحفاد كنعان وسلالة العنقاء، نعم هؤلاء الأبطال هم رموز للحرية على درب نيلسون مانديلا والمهاتما غاندي ومارتن لوثر كينج والشهيد ياسر عرفات والشهيد أحمد ياسين والشهيدة دلال المغربي وليلى خالد.
هؤلاء الأبطال لم يفقدوا الأمل، وكانت لديهم إرادة، ونية صادقة في العمل على تحقيق الهدف في انتزاع حريتهم واستنشاق هواء الحرية، توحدوا... صدقوا... عملوا... وصلوا، هل هذا الفعل كافٍ لنا أن نأخذ منه الدرس في كيفية ترتيب أنفسنا وصولاً إلى حريتنا الجماعية التي تبدأ بصدق نوايانا، والعمل الدؤوب نحو بوصلتنا في إنهاء الانقسام كممر إجباري لإنهاء الاحتلال.
تأثرت بفرسان فلسطين الستة لدرجة أنني حلمت بأنني كنت معهم في معركتهم مع الصخر داخل النفق خاصة وأنا أعيش معركة مشابهة داخل نفق الانقسام، وكم هناك من تشابه بين معاناة فرسان فلسطين الستة وبطولتهم وبين واقعنا المرير وتعطشنا لإنهاء الانقسام البغيض، فالأسرى يعيشون واقعاً مريراً مليئاً بالمعاناة والظلم ينهش شبابهم ونحن أسرى الانقسام الذي يدمر قضيتنا ويحرق سني النضال الذي يجب أن يوحدنا في مواجهة الاحتلال، الفرسان الستة حفروا الصخر بأسنانهم وأظافرهم على مدار فترة طويلة، ونحن على مدار خمسة عشر عاماً نحاول حفر كل الطرق الممكنة لإنهاء الانقسام، فرسان فلسطين الستة عانوا لحظات صعبة داخل النفق وعتمته وانعدام الأكسجين، وشعبنا على مدار سنوات الانقسام يتحسر ويتألم كل يوم، الفرسان الستة عبروا طريقهم المجهول بقلق وهم لا يعلمون إن كانوا سينجحون أم سيفشلون، ونحن على مدار خمسة عشر عاماً نعيش بقلق فاستمرار الانقسام معناه أننا نتجه إلى التهلكة وإنهاؤه يعني أننا نسير بطريق التحرر والانتصار وإنهاء الاحتلال وبناء الدولة، وفي نهاية الحلم الذي حلمته كانت وصية الفرسان الستة لطرفي الانقسام ولهيئة النوايا الحسنة ولكل من يشارك بجهود إنهاء الانقسام كما هي وصية كل شهيد وأسير وجريح «كفى للانقسام».
أقول للأخ الرئيس أبو مازن، وللأخ رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، إسماعيل هنية، نريد أن نخرج إلى الجانب الآخر من النفق لكي نتنفس الحرية، بعد أن حكم على الشعب الفلسطيني برمته بحكم «المؤبد» الذي بدأ في حزيران 2007، وما زلنا حبيسي هذا الانقسام، تعالوا معاً لنحفر الأرض نحو وحدتنا وحريتنا وبقائنا، تعالوا لكي نذهب باتجاه بوصلتنا «القدس»، تعالوا لنقول لشعبنا الفلسطيني الذي ضحى وما زال وسيبقى يضحي وصولاً إلى حقه في تقرير مصيره، إننا على قدر تضحياتك، إننا على قدر بطولاتك، إننا على قدر صمودك وعنفوانك، تعالوا لكي نطوي هذه الصفحة السوداء من تاريخ شعبنا الفلسطيني، تعالوا الآن... الآن لكي نشمّر عن سواعدنا ونصفّي نوايانا ونعمل بكل صدق لإنهاء الانقسام الذي لا معنى له سوى المزيد من التراجع الداخلي، والمزيد من تغوّل الاحتلال وبطشه.
كيف لنا أن نرفع أعيننا في وجه هؤلاء الأبطال – فرسان الحرية – لنحيي إنجازهم وكلنا فشل، كيف لنا أن نرفع أعيننا في وجه أبنائنا وهم يرون خيبتنا وتشرذمنا، كيف لأحفادنا أن يذكرونا بالخير ويترحموا علينا إذا ما أورثناهم إرثاً من انقسامٍ وتشرذمٍ شكل عبئاً ثقيلاً عليهم وعلى مستقبلهم، كيف لي أن أنظر إلى وجه حفيدي الأول منيب وهو يتألم مع كل دقيقة نتيجة إصابته برصاص الاحتلال الإسرائيلي حين يسألني: إلى متى هذا الانقسام اللعين.
أقول وبكل تجرّد وحب وصدق إنه وبعد هذا العمر وهذه التجربة، منذ أن كنت طفلاً أقذف الحجارة تجاه قطار المستعمر البريطاني مروراً بمرحلة تأسيس الثورة الفلسطينية الحديثة، وما تلا ذلك من أحداث وصولاً إلى ما نحن فيه الآن، إننا قادرون على تحقيق الوحدة، وقادرون على إنهاء الاحتلال، إذا ما صدقت النوايا، وإذا ما استطعنا أن نستخدم هبة الشيخ جراح، ومعركة القدس، وانتصار اللد، وحيفا وعكا والخليل ورام الله ونابلس لها، وبطولات بيتا رمز الصمود والتحدي وتضحيات وصواريخ غزة الأبية، وما تلا ذلك من التحام غير مسبوق بين الكل الفلسطيني في الوطن والشتات، وتضامن عالمي فريد من نوعه مع قضيتنا، وآخر هذه المحطات نشوة النصر غير المسبوقة التي شعر بها شعبنا بتحرر الأبطال الستة، بعد كل هذا أنا متأكد من أننا سوف نخرج من هذا النفق، الهام «النفق» هو هدية فرسان الحرية لنا، وهديتنا لفرسان الحرية هي إنهاء الانقسام، فلنفعلها قبل أن تلعننا الأجيال.
وفي الختام نسأل الله عز وجل أن يحمي الفرسان الستة وأن يقودهم إلى بر الأمان، وأن ينهي الانقسام ويوحد شعبنا ويسدد خطاه نحو الحرية والاستقلال وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس.