بُعيد استشهاد الشيخ عز الدين القسام مع عدد من إخوانه المجاهدين في العشرين من تشرين الثاني عام ١٩٣٥ خلال مواجهة مسلحة مع قوات كبيرة من الانتداب البريطاني استمرت ستة ساعات في أحراش يعبد قضاء جنين، ضجت الصحف والمجلات آنذاك بعناوين كان أبرزها (معركة هائلة بين عصبة الثائرين والبوليس)، و(حادث مريع هز فلسطين من أقصاها إلى أقصاها)، ربما لم يكن أحد يعلم يومها أن تلك المعركة بما حملته ساعاتها المعدودة من مضامين كبيرة على صعيد فلسفة المواجهة، كانت قد أسست لنتائج تجاوزت حد استشهاد أبطالها في أحراش يعبد.
فحادثة استشهاد القسام كانت إحدى أهم العوامل التي أدت إلى اندلاع الثورة الفلسطينية الكبرى عام ١٩٣٦، بعدما تلقف راية الجهاد منه ابن مدينة جنين، وأحد رجاله النجباء الشيخ فرحان السعدي الذي استشهد عام ١٩٣٧.
وكذلك فإن بطولات الجنود العراقيين التي شهدتها منطقة جنين إبان حرب ١٩٤٨ إلي جانب المتطوعين من أهالي المنطقة والتي أدت في آنذاك إلى تحريرها بشكل كامل من عصابات الهاغاناة كانت واحدة من أصعب المعارك وأكثرها مرارة على جيش الاحتلال خلال تلك الحرب حسب وصف المؤرخين العسكريين الصهاينة.
ظهور منطقة جنين كمسرح مبكر لأحداث كبرى وهامة في تاريخ الصراع مع العدو، إضافة إلى توفر حاضنة شعبية كبيرة فيها لكل المشاريع التي حملت هَم التصدي للاحتلال ومواجهته، من إيواء القسام و اقتفاء نهجه، مروراً بتأييد الجيش العراقي ومعاونته وصولاً إلى حضور مقاتليها وأدائهم المتميزين خلال فصول الثورة الفلسطينية المعاصرة، أكسبها رمزية عظيمة عززت في نفوس أبنائها روح المبادأة الجهادية والاستعداد الدائم للمباردة بصناعة الأحداث الملحمية الفارقة، جعلها أيضاً تحيا قدراً من البقاء على مستوى الأحداث التي هزت -وما زالت- نتائجها الكيان من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تحولت في غمرة الهدوء الجارف حسب تعبير صحيفة "ميكور ريشون" إلى برميل متفجر يؤثر على كل المنطقة وشوكة في خاصرة جهاز الدفاع "الإسرائيلي"
تاريخ ممتد وزاخر ببطولات المقاومة في جنين، لم يكن ليتوقف يوما ما، فمعركة مخيم جنين في نيسان عام ٢٠٠٢ كانت هي الأخرى واحدة من أعنف المعارك شهدتها المنطقة في الألفية الثانية على المستوى المحلي والإقليمي، حيث منعت خلالها قيادة الجهاد و المقاومة هناك العدو من تحقيق أهدافه المتمثلة في القضاء على ظاهرة الاستشهاديين -سلاح المقاومة الأمضى- من خلال استمرار تدفق الاستشهاديين إلى عمق الكيان بشكل كيفي ومركز، فأبقت على زمام المبادرة وبشكل نِدي عندما ظهرت كبرى العمليات بعد اجتياح المخيم كراغب جرادات وحمزة السمودي وأشرف الاسمر ومحمد حسنين وهنادي جرادات ، وربما كان التأثير القوي لحالة المقاومة في جنين أحد الأسباب التي دفعت الاحتلال لإخلاء المستوطنات الأربعة القريبة منها عام 2005 (غنيم، كديم، حومش، وسانور) بحيث أصبحت تقريباً المدينة الوحيدة في الضفة الغربية الخالية من الاستيطان.
رغم وطأة الظروف الأمنية ومتغيرات الواقع، إلا أن جنين حافظت على إثراء حالة المقاومة بما يتناسب وإرثها الماجد من خلال مشهدين، الأول:
يوم السادس من سبتمبر الماضي عندما لطمت أكف فرسان كتيبتها الستة محمود العارضة وإخوانه وجه الكيان بأكمله، ورسمت له صورة من العار في سجن جلبوع، لتعيد صياغة ذات الخبر الذي ضجت به الصحف والمجلات بعد استشهاد القسام قبل زهاء ستة وثمانون عاما "حادث مريع هز فلسطين من أقصاها إلى أقصاها"، والثاني: عندما حال بأس مقاوميها الأبطال دون استقرار العدو في حاجز الجلمة و جعلت دخوله إلى ضواحيها مجللاً بالخوف وبالدماء م، وأحيت عزائم شهدائها المؤمنين روح الجهاد والتضحية والانتماء لتصبح ملهمة لباقي المناطق والمحافظات.
بيئة جنين لا تتوافر على جغرافيا تساعدها على تنمية عوامل المقاومة من خطوط إمداد وتسليح وتدريب و...الخ وبالتالي الحفاظ على مقدرات ومكتسبات المقاومة كقطاع غزة مثلاً، إذ أنها تتواجد جغرافياً في صلب نطاق الاحتلال وإمكانياته الأمنية والعسكرية المهولة، إلا الحاضنة الشعبية المؤمنة التي توفرت وبشكل متين لخط المقاومة فيها الذي يرفض حلول الاستسلام أو التهدئة وينادي بمنع استقرار "إسرائيل" مقدماً الواجب على الإمكان، كانت قد مكّنته من الاستمرار بدوره في جميع المراحل والصمود المتواصل تحت مختلف الظروف، وحافظت على مكتسباته ومقدراته التي تمثلت فى بقاء روح الجهاد متقدة واستمرار نهج الانفجار والتشظي في وجه الاحتلال كما كان ينادي به وريث نهج القسام الدكتور فتحي الشقاقي، وهذا ربما ما جعل مراسل "القناة ١٢" العبرية "يهود بن حمو" يتساءل عقب استشهاد نور جرار من مقاتلي سرايا القدس مع ثلاثة شباب آخرين خلال مواجهة مع قوات الاحتلال في شهر أغسطس الماضي، ما الذي يوجد في الحمض النووي لمخيم جنين، وما الذي يميزه عن باقي المناطق، حيث أن قوات الاحتلال تداهم بشكل شبه يومي مناطق الضفة الغربية، إلا أن منطقة جنين بالتحديد قد استبدلت الحجارة بالرصاص في مواجهة هذه الاحتياجات.