بقلم/ عيسى الشعيبي
لا يحظى تعبير الأسرلة باهتمام واسع من المثقفين والكتاب الجادّين في الصحافة العربية، ولا يشغل سوى أقل القليل من المحتوى العربي الفقير بعد على الشبكة العنكبوتية، كونه تعبيراً مشتقاً بصعوبة من مفردة أعجمية سيئة الوقع على السمع، كريهة على النظر لدى الأغلبية الساحقة في البلاد العربية، إلّا أنّ هذا المصطلح اللغوي الهجين محل استخدام شائع بكثرة لدى النخب الثقافية الفلسطينية، خصوصاً عند قادة المجتمع السياسي لعرب 48 الذين يُخاطبهم مفهوم الأسرلة مباشرة، يهدّد حاضرهم ومستقبلهم، ويستفزّهم على نحو يومي، الأمر الذي وضع مقاومة هذا المفهوم الاستعماري الملتبس على رأس جدول نضالاتهم الوطنية.
مناسبة الحديث المتجدّد عن الأسرلة، وهو الطاغي على منصّات الإعلام الفلسطيني في هذه الأيام، أملته تصريحات مشينة أدلى بها، أخيراً، عضو كنيست عربي ذو خلفية إسلامية، يرأس لائحة مشاركة في الائتلاف الحكومي، اسمُه منصور عبّاس، قال فيها إنّ إسرائيل، التي قامت بقوة الحديد والإرهاب، نشأت دولةً يهودية وستبقى كذلك، زاعماً أنّ "الشعب اليهودي قرّر أن يقيم دولة يهودية، هكذا ولدَت وهكذا ستبقى" في ما يشبه دعوةً مفتوحةً من شخص له صفة اعتبارية، موجّهة إلى أبناء جلدته وبني قومه، إلى الاعتراف بالأمر الواقع والتسليم به، والقبول بالرواية التأسيسية الإسرائيلية، القائمة على إنكار وجود شعب آخر والتنكّر لحقوقه السياسية.
وأحسب أنّ هذه الدعوة الماجنة، أو قل الصادمة وغير المسبوقة، من شخصية فلسطينية، لم يتلفظ بمثلها أحد في سبعة عقود خلت، تشبه، بالمعنى الأخلاقي، تقديم خدمة عابثة بلا مقابل لوجه الشيطان، تزلّفاً له، وكُرمى لخاطره، فيما تحاكي، بالمعنى السياسي، عملية قفز بعينين مفتوحتين في بركة الأسرلة الآسنة، لأمرٍ ما في نفس منصور الذي سيذهب، بفعلته الطائشة هذه، مضرباً لأمثال شعبية، تلهج به الألسنة، وتُعقد على قوسه المقارنات المبكية المضحكة، كلما تندّر أصحابها على امرئ أتى عملاً وضيعاً خارجاً على الثوابت، أو قارف فعلة ذميمة، ضارباً عرض الحائط بالمعايير الاجتماعية السائدة، وخالطاً الطين بالعجين، مثل ذاك الذي وضع القذى في موضع الندى، أو مثل من صنع معروفاً في غير محله.
ولعلّ أكثر ما تستبطنه هذه السابقة المستهجنة، وتنطق به هذه السقطة المدوّية في درك الحياة السياسية الفلسطينية، أنّ الانحراف، إذا بدأ من نقطة صغيرة، قيد شعرة، وبدا قليل الأهمية أول الأمر، فإنّه يكبر بمرور الوقت، ويتّسع مدىً كلما طال الزمن، تماماً على نحو ما بدت عليه الانحرافات الأولية الضئيلة لدى رئيس الحركة الإسلامية (الجنوبية) يوم أحدث انشقاقاً مفتعلاً في القائمة العربية المشتركة عشية آخر انتخابات كنيست، وأضعف به الوزن التمثيلي للعرب، ثم راح ينزلق بسرعة نحو مستنقع الأسرلة، ويزيد من وتيرة الهرولة نحو الفخّ الذي نُصب له من نتنياهو أولاً، وبعد ذلك من يئير لبيد، لقاء فتاتٍ من المكاسب المالية والوعود الخلبيّة، لينتهي به المقام عاصياً سياسياً على رؤوس الأشهاد، ناعتاً الأسرى بأنّهم مخرّبون، وباصماً على أنّ إسرائيل حقيقة يهودية نهائية.
وما كان لهذه الأقوال أن تلقى استنكاراً كلياً من مختلف المستويات والقوى والفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس التي صمتت، في السابق، على وصف منصور مقاتليها بالتعبير الإسرائيلي "مخرّبين"، نقول لولا خطورة كلّ ما انطوى عليه هذا الموقف المخزي من استخذاءٍ وتهافتٍ ودونيةٍ وهرولة، وتساوق مع الأطروحات الصهيونية العنصرية، وتماثل مع السياسات الإسرائيلية الداعية إلى اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، وتهويد بلادهم، وأيضاً لولا أنّ هذا الإسفاف المخجل صادر عن شخص له صفة تمثيلية، انقلب على نفسه، وانحاز، بجلاءٍ ورعونة، لما استحقّ هذا القول كل هذا التنديد والاستنكار والإدانة من كلّ من مسّتهم هذه السردية.
على أيّ حال، قد يُشكّل هذا الإجماع السياسي الفلسطيني الشامل ضد موقف منصور عباس التفريطي، دعوةً إلى قاعدة هذا المتنكّر لهويته القومية وسمعته الإسلامية، بالانفضاض من حوله، ونبذ نهجه، وإسقاط خطابه اللامسؤول هذا، سواء في أوساط عرب الجليل والمثلث والنقب، عبر أي اختبار في صناديق الانتخابات التالية، أو في الفضاء الإسلامي العام، داخل فلسطين وخارجها، المطالب قبل غيره بإدانة هذا النهج الانهزامي، والتبرّؤ منه علناً، كون هذا الرجل المرتدّ يحسب نفسه على هذا الفضاء، ويدّعي الانتساب إلى المبادئ والقيم التي يتشارك فيها رافعو راية الإسلام السياسي.