كأنهم كانوا على موعدٍ معها وفي انتظارٍ لها، فما إن اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وبدأت العمليات العسكرية تشتد والمعارك بينهما تحتدم، حتى بدأت نُذُرُ أزمةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ تلوح في الأفق، وتتراءى لسكان العالم كلهم، الذين أسرعوا إلى الأسواق والمحال التجارية، يشترون كل شيء، ويخزنون كل ما يجدون، ويتسابقون في الحصول على أقصى ما يستطيعون.
فالحرب الدائرة قد تتسع دائرتها، وقد تطول مدتها، وتتعقد تسويتها، مما جعل سكان العالم يشعرون بالخوف مما يجري، ويسكنهم القلق من التالي، خاصةً أن روسيا وأوكرانيا تشكلان معاً أهم مصادر القمح والغاز، ليس لأوروبا وحدها الفقيرة بالغاز، بل للكثير من دول العالم الجائعة للقمح والدقيق، والتي تنتظر بواخرها يومياً أن تعود من موانئ روسيا وأوكرانيا محملةً بالقمح والحبوب الأخرى.
قد يكون تصرف المواطنين عموماً تصرفاً فطرياً مقبولاً، فالإنسان في الحروب والمحن، وفي مواجهة الحصار والعقوبات، يلجأ إلى الحفظ والتخزين، والاستزادة مما يحتاج إليه احتياطاً للأيام القادمة، التي قد تحمل معها مجهولاً أشد وظروفاً أصعب، وقد تطول المحنة وتستمر الأزمة، لكنه يلجأ إلى جانب الجمع والتكديس والادخار والتوفير، إلى ترشيد الاستهلاك وضبط الإنفاق، وتنظيم الحاجات وإعادة ترتيب الأولويات، مؤقتاً إلى أن تنتهي المحنة وتزل الغمة، وتتوقف الحرب ويسود السلام من جديد.
لكن التجار عموماً ورجال الأعمال الذين يتحكمون في التجارة الخارجية ويهيمنون على الوكالات الحصرية، سواء كانت نفطاً أو غازاً، ودقيقاً أو حبوباً وغيرها، وجدوا ضالتهم المنشودة في الحرب الدائرة، وشعروا بأنها فرصتهم الذهبية للإثراء والغنى، ومضاعفة الأسعار ومراكمة الأموال، فأيقظوا شياطين الجشع وأبالسة الاحتكار، وفرضوا شروطهم القاسية على الأسواق الوطنية والعالمية، وأخضعوها لجشعهم وطمعهم، فغابت سلعٌ أساسية من الأسواق، وارتفعت أسعار أخرى بنسبٍ عاليةٍ، وحلقت أسعار النفط والغاز في كل مكانٍ، وانعكس ذلك كله ارتفاعاً كبيراً على أسعار كل السلع ومختلف الخدمات.
ليست الحرب الروسية الأوكرانية هي الحرب الأولى في السنوات الأخيرة، فقد اندلعت حروبٌ وتفجرت أزماتٌ في أكثر من مكانٍ في العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون وغيرهم، هم الذين يقفون وراء تفجير الحروب وتصدير الأزمات، وزرع الفتن وخلق الصدامات، ولكن هذه الحروب لم تخلق أزمةً اقتصاديةً، ولم تتسبب في مجاعة عالمية، ولم تهدد الأمن والاستقرار العالمي في أكثر من مكان، بل اقتصرت آثارها على المنطقة ومحيطها، بينما نَعُمَ العالم في غيرها بالأمن والسلام والاستقرار.
هذا يقودنا حتماً إلى أن هناك من يخطط ويدبر وينظم ويوجه، ويريد قصداً أن يدخل العالم كله في أزمة اقتصادية كبيرة، وأن يهز الأمن ويهدد الاستقرار العالمي، ويشكل رأياً عاماً عالمياً دولياً مع فريقٍ وضد آخر، رغم أنني لا أقلل أبداً من تداعيات الحرب الطبيعية، فلكل حربٍ تداعياتها وآثارها، وانعكاساتها السلبية على أطرافها والمحيطين بها، خاصةً إذا كانت الحرب تنذر بحربٍ عالمية، وتستخدم فيها أسلحة فتاكة مدمرة، تحدث تغييراً حقيقياً على الأرض، وترسم في السياسة مساراتٍ أخرى.
إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي تريد الاستفادة من كل المعطيات، وتسخير كل القدرات وتوظيف كل الظروف، خدمةً لها، وتنفيذاً لأهدافها، وحرصاً على مصالحها الخاصة، وهي التي لا تتردد في قتل شعبٍ بأكمله، وتدمير بلادٍ على أهلها، ونهب خيراتها وتخريب اقتصادها، ولا يعنيها ملايين الضحايا وحجم الخراب والدمار الذي تخلفه وراءها، وهذا ما رأيناه جلياً في عدوانها على العراق، الذي اتهمته لتغزوه، وضيقت عليه وحاصرته لتضعفه، وكذلك أفغانستان وغيرها.
لا أبرئُ الكيان الصهيوني من هذه المؤامرة، التي يتحكم فيها رأس ماله الكبير، وشركاته العملاقة متعددة الجنسيات، التي تنشط غالباً في ظل الحروب وأثناء الأزمات، وتجد نفسها خلالها قادرة على فرض إرادتها وطرح شروطها، وتاريخهم في الحروب العالمية والأزمات الدولية يؤكد أنهم لا يظهرون إلا لمزيدٍ من التأزيم، أو للسيطرة وقطف الثمار، وتحقيق أكبر المكاسب السياسية وأكثر المنافع المادية.
لستُ موالياً لروسيا ولا مؤيداً لها في غزوها لدولةٍ يعلن رئيسها أنه مظلومٌ كما إسرائيل، وأنه يؤيدها ويقف معها في حربها وعدوانها على الفلسطينيين، ولا أُبرئُها من تحمل جزءٍ من المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن ما يحزنني ويؤلمني كثيراً أن أسواقنا العربية سبقت غيرها، وأعلنت رفع أسعار بضائعها قبلهم، وربما أكثر من سواهم، الأمر الذي انعكس سلباً على شعوبنا، وقهراً لأهلنا، وضاعف من معاناتهم المستأصلة وأزماتهم المستفحلة، وقد كان حرياً بتجارنا، ونحن على أبواب شهر رمضان الفضيل، شهر الخير والإحسان والعمل الكريم، أن يكونوا رحماء بأهلهم وبارين بهم، ومخلصين لشعوبهم وحريصين على أوطانهم.