اجتمع وزراء خارجية كلٍّ من مصر والإمارات والبحرين والمغرب في ضيافة نظيرهم الإسرائيلي يائير لابيد، وبحضور وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في فندق "كيدما" داخل كيبوتس "سديه بوكير"، لمناقشة عدة قضايا تتعلق بنية الولايات المتحدة الأميركية التوقيع على الاتفاق النووي مع إيران ورفع حرس الثورة الإيراني من قائمات الإرهاب الأميركية، ناهيك بمحاولتها تجنيد حلفائها في الشرق الأوسط لتقديم الدعم لها في الحرب الأوكرانية الروسية، وخصوصاً في موضوع زيادة إنتاج النفط والغاز.
من لا يعرف تاريخ كيبوتس "سديه بوكير" لن يجد جديداً في الخبر أعلاه، ولكن تبدو الصورة أوضح عندما نعلم أنَّ "سديه بوكير" الذي يجتمع وزراء التطبيع العربي فيه هو الكيبوتس الذي عاش ودفن فيه ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الإسرائيلي، والذي قاد عمليات التطهير العرقي في فلسطين في العام 1948م، ووضع جوهر استراتيجية الحركة الصهيونية التي رحّلت وهجّرت ما يزيد على 800 ألف فلسطيني، ودمّرت ما يقارب 531 قرية فلسطينية خلال النكبة الفلسطينية في العام 1948، الأمر الذي فضحه المؤرخ الصهيوني آلان بابيه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين"، الذي أثبت أنَّ طرد الفلسطينيين لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكّان، بل خطّة مفصلة جرى وضع اللمسات النهائيّة عليها في اجتماع عقده بن غوريون في "تل أبيب" يوم 10/3/1948، بحضور 10 من القادة الصهاينة، عُرفت بالخطة "دالت"، التي تضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذها، وفي مقدمتها المذابح والمجازر ضد الفلسطينيين على مدار 6 أشهر كاملة، ما أدى إلى تأسيس الكيان الإسرائيلي على ركام نكبة الشعب الفلسطيني.
إذاً، نحن أمام مشهد تعدّ دلالاته الرمزية وأبعاده التاريخية أهم بكثير من نتائجه السياسية وتداعياته الميدانية، وهو ما حاولت الحكومة الإسرائيلية التركيز عليه، إذ اعتبرت أنَّ مجرد انعقاد لقاء النقب بمثابة إنجاز بحد ذاته، مهما كانت القرارات الصادرة عنه.
لذا، حاولت "إسرائيل" أن تحشر كل الرموز والدلالات التاريخية في هذا الاجتماع، في سبيل نيل اعتراف مباشر من الوزراء العرب بالرواية التاريخية المزورة للحركة الصهيونية، بدءاً من توقيت الاجتماع الذي جعلت "إسرائيل" أيقونته شجرة زيتون متجذرة بالأرض تحيط بها أسماء الدول، الأمر الَّذي نعتقد أنّه ليس مصادفة أن يأتي بعد يوم واحد من يوم الأرض الفلسطيني، مروراً بقائمة طعام مأدبة العشاء المقدمة للضيوف، والتي اختارها المنظمون بدقة بحسب الإعلام الإسرائيلي، بحيث تضمنت "التبولة الإسرائيلية" والمرق الأورشاليمي (اليهود سكان القدس)، والأرز بالطريقة الـ"بن غوريونية"، في محاولة إسرائيلية وقحة لصناعة تاريخ مزور صهيوني في قائمات الطعام أيضاً، وليس انتهاءً بترتيب زيارة وزراء الخارجية إلى متحف بن غوريون في "سديه بوكير"، واقتراح لابيد على وزراء الخارجية وضع أكاليل من الزهور على قبر بن غوريون، وكأن المطلوب من وزراء خارجية التطبيع العربي أن يقولوا لبن غوريون، ممثل الحركة الصهيونية، وهم مطأطئون رؤوسهم: "لا تكترث أنظمتنا التطبيعية إلى كل المجازر الذي نفذتها عصاباتك الصهيونية ضد الفلسطينيين أو باقتلاعهم من أرضهم. يا سيد بن غوريون، وبحضرة وزير خارجيتكم لابيد، نعلن نحن أنظمة التطبيع، أمام العالم وأمام الأمة العربية، أنّنا مع الحقّ اليهودي في أرض فلسطين، وأننا سنعمل جاهدين بالسر والعلن على أن تبقى فلسطين يهودية، ونعدك بأن نحوّل النقب من خلال المشاريع التطبيعية المشتركة إلى عاصمة مستقبل إسرائيل، كما كنت تتمنى يا بن غوريون، بغض النظر عن الشعب الفلسطيني وقضيته"، لعلَّ أنظمة التطبيع العربي تجد الحماية من "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بعد تزعزع الثقة بالسيد الأميركي.
في ظلِّ الشحنات الهائلة من الرمزية الصهيونية الصادرة عن لقاء "سديه بوكير"، سطعت شمس الحقيقة الفلسطينية من مدينة الخضيرة، ومن شارع "هربرت صموئيل"؛ أول مندوب سامي بريطاني في فلسطين، ليبدّد أبطال وادي عارة في الداخل المحتل عام 48 وهم الأساطير والهلوسات التلمودية، بعملية فدائية في قلب الكيان الإسرائيلي، تحمل في طياتها رسالتين، في توقيت غاية الأهمية، إلى المجتمعين في "سديه بوكير":
أولاً، إنَّ الشعب الفلسطيني متجذر في أرضه، ومتمسك بحقّه بكامل ترابها، وحارس وفيّ لقضيته، وهو يؤكد لبن غوريون، ومن خلفه الحركة الصهيونية و"إسرائيل"، ولأنظمة التطبيع، بأنهم عابرون على صحراء النقب، كما عبر الآخرون على مر الزمان، وأنَّ القضية الفلسطينية حاضرة في وجدان الأمة، وليس بمقدور أحد القفز عنها أو تغييبها، وأنّ كلّ محاولات "إسرائيل" والحركة الصهيونية فشلت على مدار أكثر من قرن من الزمان في طمس حرف واحد من أحرف فلسطين، ومحو كلمة واحدة في سطر من صفحات تاريخ أرضها وحضارتها الكنعانية العربية الإسلامية.
ثانياً، إنَّ "إسرائيل" غير قادرة على حماية كيانها من سكين الفلسطيني وعدة مسدسات قديمة في يد أبناء فلسطين المقاومين، بعد سلسلة إجراءات غير مسبوقة تتمثل بتعزيز حضور قوات جيشها وشرطتها وحرس الحدود وتكثيفه على طول وعرض كيانها الهشّ، فهل يمكنها فعلاً توفير الحماية لأنظمة التطبيع العربي؟
إنَّ حقيقة ما يتطلّع إليه نفتالي بينيت، رئيس الوزراء الإسرائيلي وحكومته، من وراء تشكيل حلف عسكري شرق أوسطي على غرار حلف الناتو، ما هي سوى تغيير نظرية "نقل المعركة إلى أرض الخصم" الذي بات "جيش" الاحتلال الإسرائيلي غير قادر على تطبيقها بسبب قوة المقاومة ومحورها، لتحل نظرية "نقل المعركة إلى أرض الحلفاء" بدلاً منها.
عندها، ستقاتل "إسرائيل" إيران ومحور المقاومة حتى آخر جندي عربي في الأراضي العربية، بمعنى أنّ "إسرائيل" تسعى لحماية نفسها، من خلال جعل دول التطبيع درعاً حامية لأمنها، تتلقّى عنها الهجمات، وتبعد المعارك عن جبهتها الداخلية.