بحذر شديد فتح محمود باب غرفة العمليات، وقلبه ينبض بسرعة عالية، تجمد الدم في عروقه عندما سمع حالة ابنته حنان من الطبيب: "بنتك في وضع خطير"، وقعت عيناه على جسد ابنته المثقوب بعدد من "البرابيش" والمحاليل الطبية، وتقدم نحوها بخطوات مثقلة وسط حالة من الهدوء داخل الغرفة التي لم يخلُ من طنين جهاز القلب الذي يُشير إلى أن قلب حنان لا زال ينبض، وقد يصمُد لأيام أخرى بعد أن تمكن الأطباء من وقف النزيف الحاد.
أمسك محمود يد ابنته حنان، وجلس يحدثها عن العزيمة والإصرار والقوة في مواجهة الصعاب التي تواجه الإنسان في تلك الظروف الصعبة، لحظات قليلة حتى فتحت حنان عينيها، لترتسم الفرحة على وجه والدها المشتاق لاحتضانها؛ لكن حنان ردت ببطء شديد بثلاث كلمات "سامحني يا بابا"، في تلك اللحظة المؤثرة تفجرت عينا محمود، وبدأ نهر من الدموع ينسكب على وجنتيه.
الشابة حنان خضور (18 عامًا) من قرية فقوعة شمال مدينة جنين أصيبت برصاصة قناص إسرائيلي في التاسع من أبريل ومكثت في مستشفى ابن سينا ستُ أيام بلياليها قبل أن ترتقي شهيدةً بإذن الله تعالى.
رصاصة قاتلة
بدأت الحكاية عندما دقت الساعة التاسعة والنصف صباحًا يوم السبت الموافق 8 رمضان 1443ه؛ لتنطلق حنان وكلها نشاط وحيوية إلى مركزٍ للدروس الخصوصية في مدينة جنين، حيث يبعُد المركز عن بيتها مسافة 12 كيلو مترًا، تفاجأت حنان بإغلاق المركز نظرًا للأوضاع الأمنية التي يشهدها مخيم جنين.
على الفور استقلت حنان سيارة أجرة للعودة إلى المنزل، وفي الطريق قبل أن تغادر مخيم جنين ودون سابق انذار، انتفضت الدماء من جسد حنان؛ لتعلوا الصرخات بإصابتها برصاصة قناص إسرائيلي، لحظات وامتلأ المقعد الخلفي بدمائها الطاهرة.
مباشرة انطلقت السيارة بشكل جنوني إلى مستشفى ابن سينا في مدينة جنين، والتي أعلنت عن وصول إصابة خطيرة لفتاة، حيث اخترقت الرصاصة المتفجرة داخل أحشائها مخلفة نزيفًا حادًا أصاب الكلى والكبد والطحال بشكل كبير، وبعد ساعات عدة من إجراء العمليات تمكن الأطباء من وقف النزيف.
كان والدها محمود قد غادر المنزل يوم الحادثة قبل ابنته حنان بنصف ساعة، حيث توجه إلى عيادة الوكالة للحصول على بعض الأدوية والعلاجات اللازمة لعلاج السكري والضغط؛ ليتفاجأ هو الآخر بإغلاق العيادة، لتتحول وجهته إلى السوق الشعبي في المدينة لشراء بعض الخضروات للمنزل.
في تلك اللحظات سمع محمود صوت الاشتباك القوي بين رجال المقاومة وقوات الاحتلال في المخيم؛ لكنه لم يدرك أن تلك الرصاصات ستخطف جزءًا من قلبه، أسرع بشراء ما يلزم من خضروات للمنزل، وقبل أن يصعد للسيارة، وصل إليه ابن شقيقته يهمس في أذنه: "يا عماه، حنان أصيبت برصاص الاحتلال، وجراحها طفيفة"، فجأة انطلق لسانه بإرادة الأبطال الصابرين يقول: "الي بصير لشعبنا يصير علينا الحمد لله".
هرع محمود إلى المستشفى ليجد ابنته حنان في غرفة العمليات الجراحية، ليقترب رويدًا رويدًا إلى الطبيب ويسأله عن حالة ابنته حيث أجابه الطبيب: "ابنتك في حالة خطيرة؛ لكن نحمد الله أننا تمكنا من وقف النزيف، وقد تتعافى قريبًا".
ربطوا قنبلة في جسمي
طلب محمود من الطبيب السماح له بالدخول إلى غرفة العمليات، ووافق الطبيب فورًا، وحينما وقف محمود فوق رأس ابنته قالت له: "سامحني يا بابا" ويقول محمود لـ "شمس نيوز": "معروف أنني شخص متماسك وقوي عند الشدائد؛ لكن صراحة فقدت أعصابي حينما طالبتني ابنتي بأن أسامحها؛ فبكيت كثيرًا، وأصبت بالخوف".
بعد قرابة خمسة أيام انتقلت حنان من غرفة العمليات إلى غرف الاستقبال؛ بسبب استقرار حالتها الصحية، كانت نفسيتها صعبة جدًا، تُمسك بيد والدها، وتتوسل إليه ليبقى بجانبها، تغفو قليلًا ثم تستيقظ مفزوعة تقول: "ربطوا قنبلة في جسمي" لم يتماسك والدها فشهق مرة ومرتين حتى بكت عيناه.
في ذلك المشهد المؤلم ترك محمود العنان للسانه يهدئ من حالة الرعب التي أصيبت به ابنته: "لا تقلقي أنا بجانبكِ ستنهضين من جديد لتحقيق الحُلم، سأشتري لكِ القصص والروايات، وأجلب دفتر الرسم الذي تحبينه"، ردت حنان بابتسامة بريئة مشتاقة للعودة إلى المنزل، ثم عادت إلى غفوتها.
هنا توقفت عقارب الزمن، وبدأ والدها يستعيد بعضًا من ذكريات الماضي حيث ولادتها يقول لـ"شمس نيوز": "ولدت حنان بتاريخ 1-12-2002 في المدينة وتبين أنها تعاني من "خلع ولادة" وكان لا بد من نقلها إلى الحضانة داخل المستشفى".
ارتبك محمود في تلك اللحظات، فبدأ يتساءل في نفسه كيف أنقلها للحضانة في ظل فرض الاحتلال طوقًا أمنيًا على جنين؛ لكنه تمسك بالصبر والعزيمة والإرادة فانتقل مباشرة وسط زخات الرصاص وضجيج الدبابات وحواجز الموت حاملًا طفلته حنان بين ذراعيه إلى المستشفى قبل أن يوقفه أحد جنود الاحتلال على حاجز عسكري مهددًا محمود: "ارجع وإلا بطخك".
لم يكن أمام محمود إلا التحدي والصمود لحماية ابنته حيث فتح ذراعيه قائلًا: "طخوني" في تلك اللحظة التي أثبت فيها محمود قوته وصلابته وعزيمته للتضحية أذعن جنود الاحتلال لطلبه وتم وضع حنان في الحضانة.
من بعيد جاءه صوت قطع شريط ذكرياته، وأعاده إلى الواقع والحقيقة التي أمامه، "حنان استشهدت، حنان استشهدت"، أسقطت تلك الكلمات الثقيلة الدموع؛ لكنها لم ولن تُسقط العزيمة والإرادة التي تسلح بها والد حنان فيقول: "الحمد لله، استشهدت حنان، رفعت راسنا نعتز ونفتخر بها شهيدة بإذن الله".
حلمها تحقق بشهادة عليا
حنان فتاة مثقفة ومتميزة بين زميلاتها الطالبات في المدرسة، وتوقعنا لها أن تحصل على نتيجة من (85% إلى 90%) في الثانوية العامة التوجيهي، لتحقق حلمها وطموحها بدراسة الإدارة والريادة في الجامعة.
كانت حنان تحب الرسم، وتقضي وقتًا ممتعًا مع القلم والألوان؛ وتركت لنا بعضًا من الرسومات الجميلة التي سأعلقها في غرفتها؛ فحنان تمتلك مهارة بسيطة في الرسم، إلى جانب حبها واستمتاعها بالقراءة والكتابة.
ما يهدئ من وقع فقد الضنى الغالي على قلب محمود أن حنان استشهدت برصاص الاحتلال الظالم الغاصب لفلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، قائلًا: "العدو يريد من قتل أبنائنا أن ينال من عزيمتنا، ويضعف إرادة المقاومة؛ لكنني أقول لهم: إن عزيمتنا فولاذية، والنصر بات قريبًا جدًا بتضحياتنا وتضحيات أبناء شعبنا، وما النصر إلا صبر ساعة".
