تقضي أمُ خليل ساعات متتالية أمام صورة نجلها المعلقة على جدار داخل المنزل، تتحسس عيني نجلها ثم تبكي بحرقة؛ لتنطلق من قلبها تنهيدة مليئة بالحزن والألم وتتساءل "هل عاد نظرك إلى قوته السابقة يا بني؟".
تصمت قليلًا عن الحديث؛ لتعود وتتأمل بعينيها الدامعتين باقي جسده، أما يدها التي ترتعش من الخوف تنزل ببطء شديد تتحسس شفتيه وصدره وبطنه؛ لتتوقف هنا كثيرًا، فهي تشعر بتلك الآلام التي تصيب خليل وتنهش جسده منذ 67 يومًا متتالية؛ بسبب الإضراب عن الطعام.
لم تتمالك أم خليل نفسها أمام صورة نجلها، يفقدها الحزن القدرة على حمل جسدها، لتفقد الوعي في مشهد تكرر أكثر من مرة، منذ السابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، إذ قام زوجها بنقلها إلى المستشفى؛ لكنها وبعد الخروج من المستشفى تعود لتجلس أمام صورة نجلها في انتظار احتضانه.
حاول زوجها أبو خليل مُكرهًا إخفاء صورة نجله؛ لكنه عبثًا يحاول؛ فأم خليل ترى نجلها بقلبها فيبكي القلب، تسمع صرخاته من شدة الألم التي تعتصر معدته، فتنزل الدمعة من عينيها ساخنة كثوران الماء علها تخفف من حزنها وخوفها الشديدين على حياة نجلها.
يستعين أبو خليل بالورود الأربع اللاتي أنجبهن نجله خليل؛ ليخففن من حزن جدتهن، ينجح في بعض الأوقات، ويفشل في أوقات أخرى، لتتكرر المشاهد المؤلمة والتي بدأت مع اعتقال خليل في السابع والعشرين من ديسمبر العام الماضي.
لحظات عصيبة مرت على عائلة الأسير عواودة في شهر رمضان وعيد الفطر، يروي بعض تفاصيلها والد الأسير فيقول لـ"شمس نيوز": مرَّت علينا أيام شهر رمضان وعيد الفطر ثقيلة على حياتنا؛ فقد تغيرت عاداتنا وتقاليدنا؛ لأن غياب خليل كان مؤلمًا ومزدوجًا، اعتقال ثم إضراب عن الطعام في سجون الاحتلال".
"كلما جلسنا على مائدة الإفطار كان طيف خليل يزاحمنا على المقاعد فلا يفارقنا؛ لأن بناته (تولين ولورين وماريا ومريم) يطفن كالفراشات بالمنزل في كل وقت وحين؛ نحاول رسم البسمة والفرحة على شفاهنا أمام الأطفال"، يضيف والد الأسير.
وفي قصة الأسير خليل ما لا يطاق من الظلم والقهر، كيف لا وقد انتزع حكم البراءة من تهمة التحريض على منصة "فيسبوك"، من "المحكمة العليا الإسرائيلية" في الخامس من كانون الثاني/يناير 2022 ، إلا أن "النيابة العسكرية" رفضت ذلك، وطلبت من قاضي المحكمة العليا إبقاء خليل في السجن حتى 72 ساعة.
صدر قرار باعتقال خليل إداريًا بعد مرور أيام عدة من توقيفه على ذمة "النيابة العسكرية"، وعلى الفور عقد خليل النية للدخول في الإضراب المفتوح عن الطعام؛ لكنه أجل دخول المعركة لإصابته بفيروس كورونا حتى الثالث من آذار/مارس 2022.
بدأت معركة خليل للإضراب عن الطعام، لتبدأ معها حكاية الألم في المنزل؛ فوالدته التي لم تتوقف عن البكاء وسط حالة من الخوف والتوتر/ تمسكت بالأمل بأن ينتصر نجلها على السجان، ولم يتوقف لسانها بالتضرع إلى الله للإفراج عن نجلها وجميع الأسرى من سجون الاحتلال الإسرائيلي الظالمة.
لم تعطِ إدارة مصلحة السجون اهتمامًا لإضراب الأسير عواودة، واستمرت حالته بالتدهور يومًا بعد يوم حتى اليوم الحادي عشر من الإضراب، فحولته إدارة السجون إلى غرفة الزنزانة الانفرادية؛ لتزداد حالته صعوبة، ليستمر في ذاك المكان المظلم القذر مدة 40 يومًا متتالية.
ظلام دامس، ورائحة عفنة في المكان الضيق، ورطوبة شديدة تنخر في الجسد؛ لتشكل خطورة كبيرة على حياة خليل؛ فلم يعد قادرًا على الحركة، وبدأ يتقيأ الماء، وتشتد الآلام وتصعد رويدًا رويدًا من القدمين إلى البطن والمعدة، ثم تشتد الآلام على ظهره ورقبته ثم تنخر في عظامه فيفقد الحركة كليًا.
أمام ذلك المشهد المرعب وخشية من تداعيات استشهاد الأسير خليل أسرعت إدارة مصلحة السجون لتنقله بعد 40 يومًا من المعاناة الشديدة داخل الزنزانة إلى ما يُسمى عيادة الرملة المعروفة لدى الأسرى باسم "مسلخ الرملة".
لم يتلقَ خليل أي رعاية طبية داخل عيادة الرملة؛ لتسوء حالته بشكل كبير، تزامن ذلك مع جلسة استئناف بـ"المحكمة العليا" بعد 61 يومًا من إضرابه المفتوح عن الطعام؛ لكن خطورة وضعه الصحي منعته من حضور جلسة الاستئناف
القاضي يضرب بعصاه على طاولة المحكمة الظالمة ويُنادي: "خليل عواودة؟"، يجيبه صدى الصوت ليكرر "خليل عواودة؟"، ثم يرد المحامي: "خليل في عيادة الرملة وضعوا خطير لا يسمح له حضور جلسة الاستئناف"، تعجب القاضي وقال: "يوجد سيارة إسعاف مجهزة بكل أدوات العناية المكثفة، وهي مخصصة للحالات الطارئة"، يُجيبه صاحب القلب القاسي الطبيب العسكري للاحتلال: هذا التقرير يؤكد أن خليل وضعه صعب، ولا يمكن لنا جلبه للمحكمة خشية على حالته الصحية"، ليمسك القاضي التقرير، ويبدأ يهمس في أذن الطبيب : "هذا السجين يجب نقله للمستشفى المدني ليتلقى العلاج".
أنهى القاضي الجلسة وأجلها دون اصدار أي حكم، على أمل بأن يؤدي نقل خليل للمستشفى المدني "أساف هروفيه" لإنهاء اعتقاله الإداري، ليروي والد خليل بحزن وألم تلك اللحظات فيقول: "إن القاضي الظالم لم تهمه حياة خليل بقدر ما همه أن يفشل الإضراب عن الطعام؛ لكنه عبثًا يحاول؛ فخليل أصر على عدم التعامل والتعاون مطلقًا مع إدارة مستشفى أساف هروفيه الذين طالبوه بإنهاء إضرابه عن الطعام".
ويواصل والده رواية الحكاية المؤلمة فيقول: "تواصلت مع أصدقاء لي ليزورا خليل أو يلتقطوا صورة له من المستشفى؛ لكن الحراسة المشددة منعت أي شخص للاقتراب من غرفة خليل، وغادر خليل المستشفى بعد 3 أيام بعد فشل مخطط القاضي والمستشفى لإنهاء إضراب خليل عن الطعام دون أن يحقق أي نتائج تذكر".
لم تتوقف التفاصيل المؤلمة إلى هنا، وفي بقية القصة يقول والد خليل وصوته مليءٌ بالألم: "بعد نحو 60 يومًا من الإضراب عن الطعام أصبح خليل يعاني من تشويش في الرؤية، لم يستطيع رؤية أو تمييز المحامي الذي مكث بجانبه نحو نصف ساعة كاملة".
توقف والد الأسير خليل عواودة عن سرد تفاصيل الألم الذي يعاني منه نجله لينتقل إلى الأشد ألمًا والأكثر قسوة على القلب، حيث بنات الأسير خليل الذين فقدوا فرحة شهر رمضان وعيد الفطر السعيد؛ لاعتقال والدهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لم ترتدِ تولين (9 أعوام) ملابسها الجديدة، ولم تضع حقيبتها على كتفها كالبنات اللاتي يتنافسن في ملابسهن الجميلة والإكسسوارات اللاتي تضيف نوعًا من الجمال فوق الجمال، طرقات قدمي تولين وشقيقاتها الصغار على سلم الدرج يسمعها جدها الذي يحاول قدر الإمكان إخفاء حزنه وآلامه على نجله خليل.
فتح والد خليل ذراعيه ليحتضن تولين وشقيقاتها الثلاث ليقول لهن كالأب الحنون: "كل عام وأنتن بخير يا جميلاتي"؛ لكن صوت تولين الناعم يهمس في أذنه ليضرب صميم قلبه حينما ردت على جدها بصوت كله شوق لوالدها: "لا يا سيدي ما دام بابا في السجن، وكمان لا يأكل ولا يشرب، ما في عنا عيد".
هنا توقف الزمن، وعاد شريط الذكريات يمر أمام عيني والد خليل؛ ليقتبس منه ما يراه من صور مشرقة ليكمل روايتها قائلًا: "مباشرة بعد كل صلاة عيد يمر خليل عليَّ وعلى والدته وجدته، ثم ينتقل مع بناته ليمنحهن الفرحة والسرور؛ حيث ترافقه بناته أثناء زيارته لشقيقاته رغم بعد المسافة التي تصل إلى 15 و20 كيلو".
"سيدي بدي أطلع عند ماما" قطعت تولين وشقيقاتها حبل الذكريات ليقول بصوت غاضب: "أقسم بالله ما فيه عيد عنَّا، والتضامن مع خليل في إضرابه عن الطعام خجول وضعيف جدًا؛ لكن أؤكد لكم أن خليل لن يتراجع مطلقًا عن قراره إما النصر أو الشهادة".