بقلم د. وليد القططي
فاجعة اغتيال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي أحدثت صدمة كبيرة وحزناً عميقاً لدى الفلسطينيين والعرب والعالم؛ فالشهيدة لها دور كبير في نقل الرواية الفلسطينية وتوثيق الجرائم الإسرائيلية، ولها باع طويل في الجمع بين العمل الصحافي المهني والانتماء الوطني الفلسطيني.
وما إنْ بدأ الإجماع الدولي على استنكار الجريمة وإدانة المجرم يتسع ويتمدد، حتى ظهرت خارج سياق الفاجعة والجريمة صفحات في مواقع التواصل الإلكتروني مشبوهة أمنياً تتحدث عن ديانة الفقيدة المسيحية، وأنّه لا يجوز شرعاً الدعاء لها بالرحمة من الله تعالى (الترحّم عليها)، فانطلقت موجة من الجدل العقيم غير المُبرر وغير المنطقي من التحريم والتحليل، تدل على أزمة في الفكر الديني الإسلامي بأبعادها الإنسانية والأخلاقية والوطنية.
الحكم على الناس بعد مماتهم بأنهم من أصحاب الجنة، فيجوز الدعاء لهم بالرحمة والترحم على أرواحهم، أو أنهم من أصحاب النار، فلا يجوز الدعاء لهم بالرحمة والترحم على أرواحهم، لن يكون هو الفيصل في دخولهم الجنة أو النار، والمطلوب من المسلمين هو معرفة الأحكام التكليفية الشرعية للتعامل الدنيوي مع الناس، مسلمين وغير مسلمين، مسالمين ومعادين، مهادنين ومعتدين...
والأفضل أن يريح المسلمون أنفسهم من عناء البحث في مصير الناس في الحياة الآخرة، ليجدوا متسعاً من الوقت والجهد للبحث في مصيرهم في الحياة الدنيا، فيبحثوا عن سنن التقدم والتحضر وأسباب القوة والنصر وقوانين تغيير النفس والواقع، ويتركوا الحكم على الناس في الآخرة لله تعالى الذي يفصل بين الناس يوم القيامة بمفهوم العدل الإلهي ورحمة الله التي وسعت كل شيء، {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}.
وعندما جاء رجل يسأل النبي (ص): متى الساعة؟ قال له: وماذا أعددت لها؟ فصرفه الرسول عما لا يعنيه ولا يفيده – معرفة وقت قيام الساعة – إلى معرفة ما يعنيه وما يفيده في غاية وجوده ورسالته في الأرض – العمل الصالح وعمارة الأرض – وهذا ينطبق على السؤال عن مصير الناس يوم الساعة بدلاً من الاستعداد للساعة.
رغم ذلك، ما زال بعض المسلمين من أشباه العلماء متصوراً نفسه واقفاً على أبواب الجنة والنار، ليدخل من يريد في رحمة الله والجنة، ومن يريد في لعنة الله والنار، مُعتقداً في سريرة نفسه أنَّ الأماكن في الجنة محجوزة باسم "الفرقة الناجية"، كما اعتقد اليهود بأنها محجوزة باسم "شعب الله المختار"، فحرص كلاهما على عدم زيادة ساكنيها خوفاً من ضياع أماكنهم فيها، وصدق الله تعالى فيهم: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا}، وغاب عنهم هدي النبي (ص) في الثلاثة الذين ستُسعر بهم نار جهنم يوم القيامة رغم ظاهر عملهم الصالح – العلم والصدقة والجهاد – بسبب باطن نيتهم السيئة. في المقابل، المرأة التي تتحدر من بني إسرائيل، والتي يبدو ظاهر عملها سيئاً، ولكنها تملك قلباً رحيماً جعلها تسقي كلباً عطشان الماء، دخلت الجنة.
طريقة التفكير الخاطئة بالانشغال بمصير الناس في الحياة الآخرة، وترك الانشغال بمصير الأمة والبشرية في الحياة الدنيا، والسعي لاستعادة الأمة الإسلامية حضارتها ورسالتها، هو نتاج تراث ثقافي مُتراكم جمع بين التطرف الديني والاستبداد السياسي، بدأ من عصر الخوارج والأمويين، فاحتكر الخوارج الحقيقة المطلقة، وسنوا بدعة تكفير المسلم المُخالف، واحتكر الأمويون السلطة المطلقة، وسنوا بدعة قتل المسلم المُعارض... فهذه بضاعتنا رُدّت إلينا بعد مئات السنين، عندما تحالف الأمير والشيخ في صحراء التيه القاحلة فكرياً، فزاوجوا بين التطرف الديني والاستبداد السياسي في دولة خرج منها قرن الشيطان ليوزع التكفير والتقتيل على ما عداهم مسلمين وغير مسلمين تحت مُسميات "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما.
هذه الثقافة هي التي أنتجت جدل الترحم على روح الصحافية المناضلة شيرين أبو عاقلة التي ما إنْ تنتشر في مجتمع ما حتى تنزع منه الرحمة والرفق والتسامح، وتزرع مكانهم الغلظة والقسوة والتعصب، وما إنْ تهيمن على شعب ما حتى تنزع منه الاعتدال والتعايش والحوار، وتغرس التطرف والصراع والإقصاء، وما إنْ تستحوذ على جماعة ما حتى تُلغي تقبّل الآخر والاعتراف بوجوده وحقه في الحياة والاختلاف، ليحل مكانهم تضخيم الذات وإنكار الآخر واحتقاره والرغبة في التخلّص منه.
وإذا كان جدل الترحم على شيرين أبو عاقلة نشأ في سياق غير مبرر دينياً، فإنّه قد نشأ أيضاً في سياقٍ غير مبرر إنسانياً وأخلاقياً، فغياب البُعد الإنساني والأخلاقي عن جدل الترحم هو نتاج خطاب ديني متطرف، ونتيجة لتراجع الخطاب الديني الوسطي الحضاري ببعده الإنساني والأخلاقي، وعموده الفقري مفهوم الأخوّة الإنسانية التي تحفظ للناس كرامتهم أحياء وأمواتاً، وتحترم مشاعر الحزن عند الناس مسلمين وغير مسلمين، وتعترف بتنوّع البشر مختلفين ومُخالفين، وتبحث عن كلمة سواء مع أهل الكتاب، وتتحرّى القواسم المشتركة مع كل البشرية، وتسعى لتوسيع دائرة التعايش السلمي والتعاون على البر لخير الإنسانية... من دون التفريط في حق الأمة في نشر رسالتها الدينية الحضارية، ومن دون التنازل عن حقها في الجهاد لتحرير إرادتها وأرضها، ومن دون التخلّي عن دورها في الدفاع عن المظلومين والمستضعفين.
وجدل الترحم على شيرين أبو عاقلة نشأ في سياق غير مبرر سياسياً ووطنياً من زاويتين؛ الأولى حرف بوصلة العمل السياسي والوطني في استنكار جريمة الاغتيال وإدانة مرتكب الجريمة (الاحتلال)، وضياع جزء من جهد التضامن والتعاطف مع الفاجعة في جدل عقيم ضار غير منطقي، قد يكون العقل المدبر لشرارته الأولى هو العقل الأمني الإسرائيلي.
أما الزاوية الثانية، فهي أنَّ هذا النقاش السقيم في ديانة شيرين يُضر بالوحدة الوطنية الفلسطينية كشعب واحد -مسلمين ومسيحيين- وإخوة في القومية والوطنية، وشركاء في المعاناة والنضال، ورفقاء في التاريخ والحضارة، ويخدم هدف الاحتلال في شرذمة الشعب الفلسطيني وتفريقه دينياً وسياسياً ومناطقياً، لإضعافه وإخضاعه للإسرائيلي المحتل.
شيرين أبو عاقلة اسم جميل رسخ في وجدان الشعب الفلسطيني وقلبه، ومعنى نبيل استقر في ذاكرة الأمة العربية وعقلها، وأُضيف إلى رموز الشعب والأمة الأبرار، كرمزٍ للنضال بالكلمة والصورة ضد الاحتلال، وكمثالٍ للكفاح المهني والأخلاقي ضد الشر، وكصورةٍ بديعة يسعى لرسمها الأطفال، وتحرص على تقليدها الأجيال، وكشهيدة للواجب الصحافي والوطني يترحم على روحها كل ذي قلب وعقل من الشعب والأمة، باستثناء من نزع الله الرحمة من قلوبهم، والحكمة من عقولهم، والفقه من فتاويهم، والبصيرة من علمهم، وران على قلوبهم وعقولهم ما كانوا يكسبون من فكر متطرف عليل وفقه متجمد سقيم، فوقعوا في فتنة جدل الترحم العقيم.