غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

نجا من الموت بأعجوبة

"فؤاد كممجي" حارب المستحيل لزيارة مهجة قلبه "أيهم" فكانت المفاجآت!

أيهم كممجي.jpg
شمس نيوز - مطر الزق

كان الجو حارًا، والمسافة طويلة جدًا، كان جندي إسرائيلي يلازمني وقد مررتُ معه بين غرف رائحتها عفنة، والرطوبة قد أكلت من الحجارة عمرها، أزقة وطرق وسراديب ملتوية يصل طولها نحو 600 متر قبل الوصول إلى مساحة واسعة تبعد مسافة قليلة عن البناية الفارغة، توقفت هناك وقد توقف قلبي من الصدمة خوفًا مما رأيت، أزلتُ بيدي العرق الذي تصبب من جبيني وإلى جانبي يقف الجندي الذي قادني إلى هذا المكان الفارغ –غير الإنساني- ينادي بصوت مرتفع "باللغة العبرية" على الجنود داخل البناية.

هذا الطريق المرعب الذي سلكه فؤاد كممجي أثناء زيارته الأولى لنجله أيهم، أحد أبطال "نفق الحرية" الذين انتزعوا حريتهم من سجن جلبوع لأيام قليلة، لم يكن سوى ممر استفزازي يمنع رؤية النور الساطع الذي يخرج من وجه أيهم كأنه القمر المضيء، فتسللت دمعة فؤاد على جبينه مع ابتسامة عريضة على وجنتيه عند مشاهدة نجله بكل هذا الجمال الذي لم يرهُ من قبل مطلقًا.

تعرض فؤاد كممجي لسلسلة من العقبات والإجراءات الاستفزازية قبل زيارة نجله، وأثناء التوجه للزيارة؛ فقد شعر بالخوف والإرباك، وإمكانية فشل الزيارة؛ لكن رعاية الله وإرادة فؤاد وتصميمه لزيارة نجله كانت سببًا في الوصول إليه والاستماع إلى قصص البطولة، التي رافقت أيهم أثناء انتزاع حريته من سجن جلبوع، راويًا ثلاث محاولات فاشلة لقوات الاحتلال لاعتقال أيهم، وفي واحدة من المحاولات الفاشلة أمسكوا بقدمه، وشقوا ملابسه وأطلقوا النار عليه.

 

معاناة الحصول على التصريح

سرد فؤاد كممجي لـ"شمس نيوز" مشاهد ومواقف بطولية عدة، كشف عنها أيهم لأول مرة أثناء الزيارة، لقاء الأب بنجله البطل لم يكن سهلًا، بل واجه فؤاد عقبات عدة، أبرزها المنع من الزيارة والعقاب المفروض على أيهم منذ إعادة اعتقاله؛ فقد تعرض أيهم خمس مرات لإجراءات عقابية لأشهر متقطعة، انتهى آخر عقاب قبل أقل من شهر.

بعد ثلاثة أشهر من إعادة اعتقاله، تحديدًا في الـ 25 من شهر ديسمبر الماضي تمكن أيهم من داخل زنزانته الرطبة العفنة، -لا يتحملها بشر-، من تحقيق انتصار معنوي على السجان، بعدما هدد بالإضراب المفتوح عن الطعام مقابل السماح لزيارة الأهل، وهو ما خضع له السجان واستجاب لطلبه؛ حينما حدد موعد 24 يناير 2022 للزيارة.

لكن الأهل لم يتمكنوا من الزيارة، فقد منعتهم أجهزة أمنية إسرائيلية أخرى، وزادت من الإجراءات العقابية ضد أهله، إذ منعت والد أيهم الذي يُدير مكتب سفريات الحج والعمرة في مدينة جنين من قيادة رحلة الحج والعمرة بتاريخ 9 مارس 2022 وأعادته من الجسر الفاصل بين الأردن وفلسطين المحتلة، وأبلغته بقرار منعه من السفر خارج فلسطين.

أصر فؤاد على تقديم شكوى لأجهزة الاحتلال في محاولة منه لانتزاع تصريح لزيارة نجله وهذا ما حدث فعلًا؛ فقد أصدر الاحتلال تصريح زيارة لأيهم بداية شهر مارس؛ إلا أن التصريح وصل للصليب الأحمر تقريبًا في تاريخ (10 مايو الماضي) وهنا تسللت الفرحة لقلب فؤاد الذي أُصيب بحيرة من أمره، لتبدأ التساؤلات تتزاحم وتتصارع، "كيف أبدأ اللقاء مع أيهم؟، هل أخبره عن شقيقه الشهيد شاس؟ كيف أصبح شكله؟، ماذا أحمل له؟"، كل تلك التساؤلات تصارعت داخل أفكاره، إلا أن سؤالا واحدًا كان يدق في رأسه ويصيبه بصداع وآلام شديدة، حتى دقات قلبه بدأت تنبض بقوة: "هل سيسمح الاحتلال بزيارتي لأيهم؟ أم يُعيدني من الحاجز ويكسر فرحتي؟".

في ليلة الـ 28 من مايو أزال فؤاد كل الأفكار من رأسه بعد صداع طويل، وغط في النوم، على أمل بنجاح الزيارة ولقاء مهجة قلبه، ومع بزوغ خيوط فجر يوم الأحد 29 تفقد فؤاد حقيبته التي احتوت على ملابس جديدة لأيهم، ولا زالت الأفكار تطارده من غرفة إلى أخرى، هل سيسمحون لي بالزيارة؟، وبسبب توقعه بالعودة للمنزل عن حاجز الجلمة رافقته عدسات الصحافة؛ لترصد تلك اللحظات المؤثرة.

 

إجراءات استفزازية لمنعه من الزيارة

"بسم الله وعلى الله توكل"، توقفت حافلة الصليب الأحمر أمام حاجز الجلمة، وبدأ جنود الاحتلال ينفذون إجراءاتهم الاستفزازية بحق أهالي الأسرى؛ لكن نصيب فؤاد من الاستفزازات كانت الأسد كله، جميع أهالي الأسرى حصلوا على موافقة العبور من الحاجز؛ لتبدأ معاناتهم بانتظار فؤاد، الذي أوقفه الجنود: "من أنت؟"، "أين الأوراق؟"، "ما تحمل في حقيبتك؟"، أسئلة استفزازية دفعت فؤاد لاستعادة ذاكرة الاسئلة التي ذكرها آنفَا.

توقفت قدم فؤاد من السير للأمام لعبور الحاجز، واستدار بجسده صوب مجندة إسرائيلية -ذات ملامح أوروبية- موجهة له سؤالًا حول ما تحتويه الحقيبة التي عبرت بسلاسة من غرفة التفتيش بالليزر، هذه أول الاستفزازات التي واجهت فؤاد على حاجز الجلمة ليقول: "حقيبة بها ملابس مرت عبر غرفة التفتيش الآلي، ولم يحصل أي شيء لماذا تستوقفيني؟، لترد عليه بحقارة غير مسبوقة كأنها تريد الانتقام من والد البطل الذي أذل أجهزة أمن الاحتلال كلها:

"افتح الحقيبة دون أسئلة، واعرض ما بها قطعة قطعة" استجاب فؤاد لطلب المجندة ليست خوفًا منها، إنما خشية من إعادته إلى البيت، ومنعه من رؤية مهجة قلبه، انتهى التفتيش وصادروا الحقيبة، لم تنتهِ المعاناة عند هذا الحد، فقد قاده أحد الجنود إلى غرفة داخل الحاجز، وتفقد أوراقه واحدة تلو الأخرى، أجرى بعض الاتصالات دون أن يوجه كلمة إلى فؤاد، أيقن فؤاد في قرارة ذاته أن عودته للمنزل دون رؤية أيهم قد اقتربت.

استمر فؤاد واقفًا في الغرفة عند حاجز الجلمة ينتظر الموافقة للعبور دون أن يستفز الجنود، وبعد مرور أكثر من نصف ساعة، جاءه صوت من بعيد: "هيا اعبر الحاجز" تفاجأ فؤاد وغادر بصمت، كانت دقائق مؤلمة جدًا ليست لفؤاد وحده؛ إنما لأهالي الأسرى الذين كانوا ينتظرون فؤاد على أحر من الجمر؛ لتسير الحافلة تجاه المعتقل الإسرائيلي.

قدماه لا تقويان على حمل جسده، وصل إلى سُلم الحافلة وملأ رئتيه شهيقًا، قبل أن يجلس مسترخيًا، حينها أطلق زفيرًا طويلًا، فقد انتهى الكابوس الذي كان يصارع أفكاره منذ أن حصل على تصريح لزيارة أيهم.

 

طريق مرعبة

بعد اطمئنان أهالي الأسرى على فؤاد، ووصول الحافلة لمعتقل ريمونيم، يحيط به أسلاك شائكة وأبراج مراقبة عدة تكشف كل صغيرة وكبيرة تقترب من السجن، دخلت الحافلة إلى المعتقل، وتوجه أهالي الأسرى لزيارة أبنائهم الأبطال؛ إلا أن فؤاد لم يتجه معهم فقد كانت زيارته تختلف تمامًا، حيث وَقَّعَت إدارة المعتقل أوراق الزيارة؛ ليقوده أحد الجنود إلى زنزانة أيهم.

قال الجندي باللغة العربية الركيكة  "يلا خبيبي"، وبدأت الرحلة الصادمة، ممرات طويلة وسراديب ضيقة، وغرف على اليمين واليسار رائحتها عفنة تكاد تخترق قلب فؤاد، فالرطوبة كشفت عن ضعف الحجارة، والحرارة المرتفعة تسببت بغزارة العرق الذي ملأ جسده، لكنه صبر وربط على قلبه ليرى نجله أيهم، مرت دقائق طويلة، فقد سار فؤاد على قدميه نحو 600 متر، حتى وصل لبناية فارغة لا صوت فيها، توقف الجندي أمام البناية التي تبعد عنهما 6 متر تقريبًا ينادي بصوت مرتفع على الجنود داخل البناية.

هنا تسلل الخوف والرعب إلى قلب فؤاد الذي شاب شعره وارتجف جسده؛ لهول ما شاهد في الطريق إلى البناية، ردد بلسانه الذي بدا يخرج الكلام بشكل متقطع، كيف سيكون حال أيهم في هذه البناية وهذا المعتقل؟، قطع تساؤلاته صوت الجندي قائلًا "يلا".

وصل فؤاد إلى زنزانة كانت رائحتها لا تُسر صديق ولا عدو، جلس ينتظر مهجة قلبه أمام الزجاج السميك الذي يمنع الصوت، ووقف الجندي خلفه يترقب قدوم الأسد الهصور، أنصت فؤاد لصوت ضجيج تفقد حوله ليرى سماعة الهاتف المعلقة أمام الزجاج فالصوت يخرج منها، كان صوت قدوم أيهم فكانت الصدمة قوية جدًا.

 

النور يخرج من جبينه

صوت سلاسل حديدية تتحرك صوبه، أخذ يداعب أذنيه من الضجيج، شعر بدوار شديد في رأسه، وبدا كأنه يتأرجح يمينا ويسارا، الدماء تسري برأسه أكثر من اللازم، رفع عينيه صوب السلاسل الحديدية ليرى ما لم يكن يتوقعه، "أيهم" مربوط بسلاسل في يديه وقدميه وسلسلة من يديه إلى قدميه، ماذا يجري؟، بسرعة خاطفة استوعب المشهد؛ حتى لا يؤثر سلبًا على نفسيه نجله ومهجة قلبه.

اقترب أحد الجنود من أيهم، وفك وثاقه لتتحرر يداه، أسرع أيهم مبتسمًا ممتشقًا سماعة الهاتف معبرا عن فرحته لرؤية والده، في تلك اللحظة المؤثرة كان يتمنى العاشقين تكسير الزجاج ليحتضنا بعضهما البعض؛ فقد قبّل أيهم والده عبر الزجاج، وسالت دموع الفرح، والضحكة العريضة ارتسمت على شفتيهما، يقول فؤاد: "لم أرَ أيهم بهذا الجمال من قبل، لقد كان النور يخرج من جبينه، يا الله ما أجمله! ربي يحفظه ويحميه ويرزقه الحرية".

بدأ فؤاد ونجله أيهم الحديث عن الأوضاع والأحوال، فكانت مليئة بالحب والطمأنينة، في تلك اللحظات الجميلة، كان فؤاد يخشى أن يتحدث عن نجله الثاني شاس الذي استشهد برصاص الاحتلال الإسرائيلي، أما أيهم فقد كان يعشق الحديث عن شقيقه فقال لوالده: "الحمد لله أن شاس استشهد، وهذا فخر ووسام شرف أرفع به رأسي أمام الأسرى والسجان" تفاجأ فؤاد من ردة فعل أيهم؛ لأنه كان يخشى الحديث عن شاس فقد انعكست الآية "بدلًا من أن يلعب فؤاد دور الأب الحنون أصبح أيهم هو الأب الحنون؛ لأنه يمتلك معنويات عالية جدًا تقهر السجان".

 

غط بالنوم في البركة

وفي تلك اللحظات المؤثرة والقوية كشف أيهم لوالده فؤاد بعضًا من المشاهد الحية التي رافقته خلال انتزاع حريته من سجن جلبوع، وما تعرض له في الطريق إلى جنين من مواقف صعبة كادت أن تودي بحياته.

يروي أيهم لوالده قصته البطولية: "الساعة كانت الثانية فجرا تقريبًا جلسنا ننتظر دقائق كثيرة لقطع طريق سريع؛ لكن المركبات لم تتوقف مطلقًا، رصدنا ضوء مركبة بعيدة، هنا قررنا قطع الطريق، وما أن وصلنا إلى الضفة الثانية حتى توقفت المركبة، ليتبين أنها شرطة الاحتلال، هربنا مسرعين في المنطقة الوعرة وتفرقنا، كنت أركض يمينًا ويسارًا وسط الأشجار والأشواك لتنزلق قدمي في بركة من المياه، نظرت على جانب الطريق، فرأيت قطعة بلاستيك وضعتها على رأسي،  وبقي جسدي غاطسًا في الماء، ورأسي مرتفع والجندي الإسرائيلي فوق رأسي يكشف بالمصباح، كنت اعتقد أنها اللحظات الاخيرة في حياتي".

أغمض أيهم عينيه ونطق الشهادتين، كان يصارع نفسه كي لا يصدر صوتًا، وبعد وقت من الملاحقة فتح أيهم عينيه؛ ليرى بزوغ الفجر، نعم لقد كان نائمًا في بركة المياه، وخرج منتصرًا بعناية الله تعالى.

 

مزق ملابسه وأطلق النار صوبه

وفي محاولة أخرى كاد أن يقتل فيها بالرصاص، وصل إلى السياج الفاصل ما بين الضفة وأراضي الـ 48 التي يتسلل منها العمال، صعد أعلى الشجرة؛ لأن آليات الاحتلال لا تتوقف من المرور بالقرب منه، وفي لحظة مفاجأة نزل أيهم من الشجرة محاولًا الوصول إلى الثغرة في السياج؛ لكن جيب عسكري مر بالقرب منه؛ ليعود مسرعًا إلى الشجرة، وكرر ذلك ثلاث مرات، قبل أن يقرر أخيرًا القفز مسرعًا صوب الثغرة فيشاهده جندي إسرائيلي لحق به، وأمسك بقدمه؛ لكن أيهم كان أقوى منه، فهرب وترك له جزءاً من ملابسه الممزقة، وأثناء الهروب أطلق الجندي النار حوله معتقدًا أنه أحد عمال الأراضي المحتلة.

كثيرة هي قصص البطولة التي تركها أيهم في طريقه إلى جنين، لكن الأب كان مستمعًا وهو يستمع لنجله كيف أذل أجهزة الامن الاحتلال، وانتصر عليهم بإرادته وعزيمته الفولاذية التي لا يمكن كسرها مطلقًا.