تعلمت في هذا الاسبوع مرة اخرى ما تعلمته منذ زمن وهو أن اسرائيل الليبرالية ليست ليبرالية في معاملة من يعترض على فروضها الأساسية. يجوز أن يُكتب عن رئيس وزراء اسرائيل أنه يُهيج الحرب وأنه مجرم حرب وعنصري. ولا يجوز أن يُكتب عن رئيس السلطة الفلسطينية أنه رافض للسلام دائم. فلماذا ذلك؟ هكذا. لأن السلامة السياسية ترفض فكرة أن كل البشر متساوون في حقوقهم وواجباتهم ومواجهتهم للانتقاد. وهي تمنح كل زعيم فلسطيني مهما كان منعة شاملة. وهذا هو الذي جعل وسائل الاعلام الاسرائيلية لم تقل كل الحقيقة عن ياسر عرفات في الوقت المناسب، وهو ما يجعل عددا من رفاقي يصعب عليهم أن يقولوا كل الحقيقة عن محمود عباس الآن ايضا. فما يجوز أن يُكتب عن كل سياسي في العالم لا يجوز أن يُكتب عن سياسي يعمل في رام الله أو في غزة. وكل بحث موضوعي في امور القيادة الوطنية الفلسطينية هو بمنزلة تجديف.
إن عاصفة العواطف التي أصابت زملائي هذا الاسبوع ذكرتني بأيام اخرى. في شتاء 1987 نشبت الانتفاضة الاولى وخرج عشرات آلاف الفلسطينيين الى الشوارع لطلب حريتهم وبحق. لكنني لاحظت أن كثيرا من المنتفضين لم يطلبوا انهاء الاحتلال فقط بل طلبوا هذه البلاد، فهم لم ينسوا اللد ولم يتخلوا عنها. ولما كان الامر كذلك خلصت الى استنتاج أنه يجب على اليسار الاسرائيلي أن يُعرف نفسه مجددا. وعليه أن يُفرق بين مسألة الاحتلال ومسألة السلام، وأن يحاول انهاء الاحتلال حتى بغير سلام. قد لا يفضي الانسحاب من المناطق الى مصالحة وقد تستمر المواجهة العسكرية بعده، لكن الانسحاب الكبير مطلوب لضمان المستقبل الاخلاقي والسكاني والسياسي لدولة اسرائيل.
صُغت هذا الرأي الجديد في مقالة كانت هي المقالة الشاملة الاولى التي نشرتها. وأثارت مقالة "اليوم الذي يلي الانسحاب" في شباط 1988 وكانت عنوانا صحفيا رئيسا، أثارت فورا عاصفة مشاعر كانت تشبه جدا عاصفة المشاعر في هذا الاسبوع، فقد أثنى علي وامتدحني كثيرون لكن كثيرين ايضا هاجموا وانتقدوا. فهم لم يستطيعوا احتمال حقيقة أن من يشاركهم في قيمهم وتصورهم العام يرى الواقع رؤية مختلفة ويقترح طريقة مختلفة لمواجهة الاحتلال والمستوطنات. لكنني أصررت على رأيي وأصر عليه.
علينا جميعا واجب اخلاقي هو أن نحاول الوصول الى السلام في كل سنة: وقد أكون مخطئا وربما يكون الماء قد انحسر، وربما تكون الحمامة التي تحمل في منقارها غصن زيتون على النافذة. لكن علينا جميعا في الوقت نفسه واجب ألا نُسخر انهاء الاحتلال لانهاء الصراع. ولا يجوز لنا أن نخلد الحلقة المفرغة التي تجعلنا ننتظر مرة بعد اخرى اتفاقا دائما في الربيع القريب، ونحصل على ثلاثين ألف مستوطن آخر في الشتاء التالي. ويجب علينا أن نشق طريقا ثالثا بين كل شيء ولا شيء. ويُحتاج الى فكرة سياسية خلاقة واقعية تُمكننا من الخروج من المناطق بالتدريج وبحذر دون أن نكون متعلقين بتضليلات القيادة الفلسطينية.
حينما اقرأ اليوم مقالة "اليوم الذي يلي الانسحاب"، أمتليء فخرا لأنني كنت واحدا من أوائل من رأوا الكتابة على الجدار وصاغ رأيا أصبح اليوم يقبله كثيرون. لكنني أحزن ايضا لأن انتظار جودو الفلسطيني جعلنا نخسر زمنا ثمينا. وحقيقة أننا لم نحدد حدودا بقوانا الذاتية قبل عقد أو اثنين هي التي مكّنت الاحتلال من أن يزداد عمقا، والمستوطنات من أن تُبنى، وحل الدولتين من أن يفلت من بين أصابعنا.
وهكذا حينما نقف اليوم أمام الانكسار الفكري والعاطفي الكبير لانهيار مسيرة السلام ينبغي ألا نكتفي بشتم اليمين. صحيح أن اليمين اخطأ وكان ايضا رافض سلام، وجلب كارثة على اسرائيل. لكن يجب الآن أن ننضج وأن نصحو ونتحمل المسؤولية. وينبغي أن نستبدل الاتفاق الدائم الذي لن يكون بالمشروع الصهيوني الأهم في القرن الواحد والعشرين وهو تقسيم البلاد.