كشفت عملية الهروب من سجن "جلبوع" أن العدو قابل للكسر والهزيمة، وأن ضعف الإمكانيات ليس عائقاً أمام تحقيق إنجاز كهذا، وأن ساحات العمل المقاوم لا تقتصر على جغرافيا معينة، ولا على أسلوب واحد.
وتجيء يا محمود من زرد السّلاسل، وتطلّ يا محمود من دمنا المقاتل، من ضحكة الأطفال من حزن الأرامل.
قد لا أجد أفضل ولا أجمل من هذا الأبيات التي كتبها الفقيد الكبير الدكتور رمضان شلّح في وداع الشهيد محمود الخواجا في حزيران/يونيو 1995. يومذاك، كان يرثيه بعد أن تسلّلت إليه يد الغدر والإجرام بكاتم صوتها المجرم، ليرتقي شهيداً إلى العلياء بعد رحلة طويلة من الجهاد والمقاومة.
اليوم، أستعيرها من الراحل أبي عبد الله لأكتب عن محمودٍ آخر، عن ذلك المحمود الذي جاء ورفاقه الخمسة من بعيد يمتطون خيولهم العربية الأصيلة، يمتشقون سيوفهم ليقطعوا رأس الوحش؛ وحش بني صهيون الذي عاث فساداً في كل الساحات، وخراباً في كل الفضاءات.
في العدد كانوا ستة، لكنهم في ميزان الرجولة والبطولة ستة آلاف، بل قل ستين ألفاً ويزيد، جاؤوا وقد فترت حماستنا، وخارت عزائمنا، وضعُفت حيلتنا. جاؤوا في زمنٍ يملأه الخوف، ويلفّه الحزن، وتكسو تفاصيله الهزائم والانكسارات.
وكأن محموداً ومحمداً وزكريا وأيهم ومناضلاً ويعقوب جاؤوا من زمن حطين وعين جالوت والقادسية، كأنهم استلهموا روح النصر من خالد وصلاح الدين والظاهر بيبرس، فحوّلوا حزننا إلى فرح، ويأسنا إلى أمل، وكربنا إلى فرج، وهزائمنا إلى ملاحم وانتصارات.
في ذلك الصباح الموشّح بالغار، والمعطّر بالياسمين، والمزيّن بحنة العرائس في بلادي، كانت فلسطين بشعبها الطيب على موعدٍ مع معجزةٍ طال انتظارها، حطّم فيها ستة من الأسرى الأبطال نظرية الأمن الإسرائيلي، وأراقوا ماء وجه العدو أمام القاصي والداني، وسجّلوا لأنفسهم ولشعبهم ولكل أحرار العالم انتصاراً بالضربة القاضية ستبقى آثاره ماثلة أمام ناظري المحتل إلى قيام الساعة.
اليوم، ونحن نعيش الذكرى الأولى لعملية "نفق الحرية" البطولية، التي انتصر فيها كف الفلسطيني الأعزل على مخرز بني صهيون المسموم، وعلى أعتاب دخول أبطالها الستة والسبعة الآخرين ممن ساعدوهم عامهم الثاني في الزنازين الانفرادية، وحرمانهم أبسط الحقوق الإنسانية، والتنكيل والتعذيب المحرّم والممنوع بحسب كل الشرائع والقوانين الدولية، دعونا نحاول استخلاص بعض الدروس والعِبر من تلك التجربة الملهمة التي يمكنها أن تشكل قبساً من نور يهتدي به من أراد أن يسلك دربهم ويسير على خطاهم.
وسنشير في هذا المقام إلى أربعٍ من هذه العِبر والدروس لأهميتها:
أولاً: كشفت عملية الهروب من سجن "جلبوع" الشديد التحصين أن هذا العدو قابل للكسر والهزيمة، وأن ما يحيط نفسه به من هالة القوة والبأس والعظمة ما هو إلا كومة غبار قابلة للفناء والاندثار عند تعرّضها لأول عاصفة، وأن انتصاراته التي يُفاخر بها على دول العرب وجيوشهم كانت بسبب ضعف عزائمهم وخوار إرادتهم وتفرّق صفهم، ولم تكن بسبب قوته وجبروته وتفوق جيشه الذي قِيل يوماً إنه لا يُقهر.
ثانياً: كشف القائد محمود العارضة ورفاقه الأبطال أن ضعف الإمكانيات المادية ليس عائقاً أمام تحقيق إنجاز كهذا، وأنه يمكن اجتراح ما يُعتقد أنه مستحيل من خلال الأخذ بالأسباب، ووضع الخطط العملانية المناسبة، والحفاظ على السرية والكتمان، وقبل كل ذلك الإيمان المطلق بأن المطلوب من أصحاب الحق العمل وبذل الجهد ليس أكثر من ذلك، وأنه ليس مطلوباً منهم ضمان تحقيق النتائج، فالنتائج بيد الله وحده، ويكفي الإنسان شرفاً أن يحاول مرة تلو أخرى من دون كلل أو ملل حتى وإن لم يتحقق له ما يريد.
ثالثاً: أظهر حجم الالتفاف الشعبي والعربي والإسلامي وحتى الدولي غير المسبوق حول هذه القضية أن هذه الأمة حيّة، ولم تمت كما يٌتصوّر أو يحاول أن يصوّرها البعض، وأنها ليست بحاجة إلا إلى من يضيء لها المصباح لتهتدي إلى درب الحرية والكرامة في طريق يلفّه الظلام من كل اتجاه.
فما شاهدناه من تضامن وتعاطف مع أبطال الهروب الكبير، سواء عند هروبهم أو بعد إعادة اعتقالهم، كشف حجم الزخم الهائل الذي تحظى به القضية الفلسطينية في كل أرجاء المعمورة، وأن خيار مقاومة هذا المحتل، بصرف النظر عن الطريقة والأسلوب والأدوات، تبقى مقدّمة على ما سواها من خيارات، وخصوصاً تلك الخيارات التي أدخلت شعبنا في متاهات وانقسامات لها أول وليس لها آخِر.
رابعاً: بات واضحاً للجميع أن ساحات العمل المقاوم لا تقتصر على جغرافيا معينة، ولا على أسلوب واحد، فليس بالضرورة أن تكون في ميدان المعركة العسكرية وتملك السلاح، على أهمية هذا الخيار، فالسجن يمكن أن يكون ساحة مواجهة تتحقق فيها إنجازات وانتصارات، وهذا الأمر ينطبق على العمل المتواصل والدؤوب في جميع المحافل السياسية والثقافية والفنية والإعلامية والرياضية وغير ذلك كثير.
ختاماً، نعود إلى محمود العارضة، بطل حكايتنا، ورفاقه الخمسة، لنقول لهم: إذا كان الشهيد محمود الخواجا لن يعود إلى هذه الدنيا، ولن يعود إلى حضن أبنائه وذويه وأصدقائه، ولن يعود إلى بيّارات البرتقال في يافا، ولا إلى حواكير التين والصبّار في مرج ابن عامر، إلا أنكم أنتم ستعودون، ستعودون رغم أنف السجّان، كرماء عظماء مرفوعي الهامات، ستعودون كأجمل ما تكون العودة، وتلتقون أحباءكم كأجمل ما يكون اللقاء.
حينذاك، نغنّي لكم أغاني الفرح، وننظم لكم أشعار الحرية، ونكرّر ما صدح به البطل أيهم كممجي في قاعة محكمة العدو الزائلة:
مرج ابن عامر قم وحدّث قصة.. أبطالها نفروا إلى الرحمن!
ما همهم بيت الطغاة وسجنهم.. عافوا قيود الذّل والحِرمان!
فالحر يأبى أن يكون مقيّداً.. والصقر يأنف ذلّة الخِرفانِ!
حتى ذلك الحين، نبرق إليكم السلام، ونرسل التحايا، ونطيّر لكم خالص الدعوات بفرجٍ قريبٍ تقر به أعينكم وأعيننا!
سلامٌ عليك يا محمود العارضة، وأطال الله في عمر أمّك الصابرة والمحتسبة لتتذوق العسل من يديك الطاهرتين كما كنت تتمنى!
سلامٌ عليك يا زكريا الزبيدي، وأنت على موعد ليس ببعيد مع قراءة الفاتحة على قبر شقيقك الشهيد داوود الذي منعوك من وداعه!
سلامٌ على الأيهم الصنديد، صاحب قلب الأسد، وحضن أبيك في انتظارك ليعانقك من دون حدود أو قيود!
سلامٌ عليك يعقوب غوادره، وأنت تتحدى جبروت السجان والمرض، وتعاهد شعبك بأنك ستُعيد الكَرّة من جديد!
سلامٌ على محمد العارضة وهو يقول: "لو أن الأيام الخمسة خارج السجن هي كل حياتي لوافقت على ذلك!".
سلامٌ على البطل المغوار مناضل انفيعات، الذي قرر المشاركة في العملية رغم قرب الإفراج عنه رفضاً للظلم، وحفر الصخر بأظفاره لينعم رفاقه بالحرية والكرامة!
سلامٌ على شعبكم الكريم والعزيز، على من بكى فرحاً لحظة تحرركم، وألماً وحزناً عند إعادة أسركم.
سلامٌ على فلسطين وشهدائها وجرحاها وأسراها، سلامٌ على شعبها وأطفالها ونسائها وشيوخها، سلامٌ على مقاوميها ومناضليها ومجاهديها، سلامٌ على أنصارها ومحبيها ومريديها في كل أرجاء المعمورة.
سلامٌ على من ينتظرون الغد الجميل الذي هو آتٍ لا محالة رغم أنف المحتلين، "ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريباً".