لا تزال دولة الاحتلال الإسرائيلي مذهولة مما جرى في سجن "جلبوع". كما لم تستوعب ما حدث، ولم تستفق بعد من الصدمة التي كانت أكثر من مجرد هزيمة مُذلة، وما زالت تعيش واقع الصدمة التي أصابتها وتعاني اضطرابات ما بعد صدمة "المعجزة". فيوم السادس من أيلول/سبتمبر 2021، كان يوماً له ما بعده، وترتبت عليه تداعيات كثيرة. ولا أبالغ إن قلت: إن معظم ما تشهده السجون اليوم من تصعيد هو نتاج ذاك اليوم، وأكاد أجزم بأن إدارة السجون الإسرائيلية ماضية في إجراءاتها العقابية والانتقامية، ليس بحق مَن نجحوا في انتزاع حريتهم وانتصروا فحسب، أو بحق أسرى حركة الجهاد الإسلامي فقط، وإنما بحق الأسرى عموماً والذين مازالوا يدفعون ثمن ذاك الانتصار، مما أدى إلى تغير طبيعة الإجراءات اليومية ونمط الحياة المعتادة داخل السجون، سعياً من إدارة السجون الإسرائيلية لاستعادة هيبتها المفقودة التي مرّغها الأسرى بالتراب، وترميم صورتها التي أغرقها هؤلاء الأبطال في الصرف الصحي، وسعياً كذلك لتشويه صورة المنتصر التي رسمها أولئك الأقمار الستة ومحو تأثيرها في الوعي الجمعي الفلسطيني ولدى العديد من الأحرار في العالم.
إن ما فعله هؤلاء الأسرى يعكس قوة الإرادة والعزيمة التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني، ويعبّر عن مدى إصراره على المضي قدماً في مسيرته الكفاحية، حتى في أحلك الظروف وأكثرها صعوبة، من أجل انتزاع حقه الطبيعي في العيش بحُرية، وقدرته على تحقيق الانتصار على المحتل على الرغم من اختلال موازين القوى. وعملية الهروب من سجن "جلبوع" لم تكن الأولى في تاريخ الحركة الأسيرة، إذ سبقتها العشرات، ولن تكون الأخيرة في سياق البحث عن الحرية، لكن ربما تكون هذه أهم تلك المحاولات، من حيث التوقيت والدلالات وحجم النجاحات، وتصلح لأن تكون سيناريو لفيلم عالمي.
لقد مثّلت عملية هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي، عبر نفق استمروا في حفره في باطن الأرض بأدوات بسيطة طيلة تسعة أشهر متواصلة، انتصاراً أمنياً ونضالياً وسياسياً عظيماً للفلسطينيين كل الفلسطينيين. إنه انتصار بحجم "المعجزة". وهو ما دفع بقضية الأسرى والمعتقلين إلى واجهة الأحداث السياسية والحقوقية والإعلامية، المحلية والإقليمية والدولية. وفي المقابل، شكّلت ضربة قاصمة وهزيمة كبيرة للاحتلال وقيادته، وفشلاً ذريعاً وخطيراً لأسطورة المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وخصوصاً أن هذا السجن، الذي أُنشئ حديثاً في سنة 2004، يُعتبر الأكثر تحصيناً والأشد حراسة ومراقبة في دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تصفه بـ "الخزنة الحديدية".
ومنذ علمها بخروج الأسرى من فوهة "نفق الحرية"، وظّفت دولة الاحتلال قوات عسكرية وأمنية كبيرة جداً، ووفرت إمكانات هائلة وموازنة طائلة، وجنّدت عملاء لها، ولجأت إلى أحدث وسائل التكنولوجيا من أجل اللحاق بمن جعلوا منها أضحوكة، ومن منظومتها الأمنية مثاراً للسخرية، وتمكنت بهذا الجهد الهائل من إعادة اعتقال الأسرى الستة، بعد أيام قليلة، في حادثين منفصلين، وهو ما أصابنا بحزن شديد، وأفقدنا بعضاً من الفرحة التي عشناها، منذ علمنا بهروبهم، إلاّ إن إعادة اعتقالهم، التي تندرج في إطار المألوف والروتيني، لا تقلل من شأن ما سجّلوه من انتصار عظيم، وما سطّروه من ملحمة مُلهمة وبطولة استثنائية بحجم المعجزة.
ومنذ أُعيد اعتقالهم، كنا قد حذّرنا من أن الإجراءات الانتقامية ليست عابرة، ولن تقتصر على توزيعهم على عدة سجون إسرائيلية، أو عزلهم في زنازين انفرادية متباعدة في ظروف قاسية فحسب. وإنما القمع والتضييق سيستمر، وعزلهم الانفرادي قد يمتد طويلاً. لذا، فإن ما يتعرضون له اليوم، كان أمراً متوقعاً. ونضيف: قد تستمر هذه الحال إلى أبعد من ذلك، وأكثر مما نتوقع، ما لم نتحرك ويتحرك الجميع سريعاً ونقف إلى جانبهم وندعمهم ونساندهم بالشكل الذي يستحقونه.
لقد كان وما زال من المهم جداً أن نحافظ على صورة "المنتصر" التي رسمها هؤلاء الأبطال الستة بإرادتهم، ونصون ما حفروه بأظافرهم وملاعقهم، عبر نفق "جلبوع"، ليبقى راسخاً في الذاكرة النضالية والتحررية للشعب الفلسطيني وكافة الأحرار في العالم، ولنجعل من الملعقة "أيقونة" للحرية المنشودة التي يحلم بها كل فلسطيني. لذا، علينا تدارُك خطورة المرحلة، والعمل على إبقاء الملف مفتوحاً وتسليط الضوء على ما يتعرض له هؤلاء الأبطال، وتوفير الحماية لهم من الأذى والضرر الإسرائيلي المتعمد والمتصاعد بحقهم، واستحضار الحدث بصورة دائمة في وسائل الإعلام المختلفة، ومواجهة المحاولات الإسرائيلية الهادفة إلى تبديل الصورة، وبث روح الإحباط لدى عموم الأسرى والكل الفلسطيني.
لقد حاول الأسرى الفلسطينيون "الهروب" من سجون الاحتلال الإسرائيلي عشرات المرات، فرادى وجماعات، بهدف انتزاع حريتهم المسلوبة، في ظل الأحكام الخيالية التي تفرضها محاكم الاحتلال بحقهم وعدم تحديد حكم "المؤبد"، ومع استمرار احتجازهم عشرات الأعوام وتهرُّبها من استحقاقات العملية السياسية وتضاؤل الفرص الأُخرى للإفراج عنهم، وهذا حق لهم يُسمَح به، وفقاً للقانون الدولي الذي أجاز للأسرى والمعتقلين انتهاج وسيلة للهروب من سجون الاحتلال، وعالجت اتفاقية جنيف الثالثة (1949) هذا الموضوع، والتي انضمت إليها، أو صادقت عليها، كل الدول تقريباً، بما فيها (إسرائيل)، في موادها (91–94). وكذلك جاءت اتفاقية جنيف الرابعة (1949) في المادة (120) على ذلك. والخلاصة القانونية أن عمليات الهروب، وفي كل الأحوال، لا تستوجب عقاباً جنائياً. لكن يمكن فرض عقوبات تأديبية بحق مَن حاولوا الهرب وفشلت محاولاتهم. أما الهروب الناجح لأسير الحرب، وفي حال أُعيد اعتقاله، فإنه لا يخضع لعقوبات جنائية أو تأديبية بسبب هذا الهروب.
لكن يجوز أيضاً فرض مراقبة خاصة على المعتقلين الذين عوقبوا بسبب الهروب أو محاولة الهروب، بشرط ألا يكون لهذه المراقبة تأثير ضار على حالتهم الصحية، وعدم تعرُّض المعتقلين، الذين ساعدوا في الهروب أو في محاولة الهروب، إلا لعقوبة تأديبية عن هذا الفعل.
إن دولة الاحتلال لا تعاملهم وفقاً لاتفاقية جنيف الثالثة، باعتبارهم أسرى حرب، ولا تعترف بهم كمدنيين اعتُقلوا في زمن الحرب وتنطبق عليهم اتفاقية جنيف الرابعة، فهي تصرّ على روايتها الظالمة، وتقدمهم على أنهم (مجرمون وقتلة وإرهابيون) وقد ارتكبوا مخالفات وجرائم سابقة، اعتُقلوا وحوكموا بسببها، واليوم ارتكبوا جريمة جديدة تتمثل في الهروب، وترى أنهم يجب أن يُحاكَموا عليها وتُفرَض عليهم عقوبات جنائية، كما تفعل الدول المستقرة مع (الهاربين) ضمن قانون العقوبات المتبع لديها. لذا أصدرت سلطات الاحتلال عقوبات جنائية تمثلت بفرض أحكام إضافية بالسجن الفعلي بحق الأسرى الستة وهم من نجحوا بالهروب، وبحق من ساعدهم على الهروب أيضاً، وما زالت تُخضعهم للعزل الانفرادي ولعقوبات قاسية، بالرغم من مرور عام كامل على تلك العملية، الأمر الذي يشكل انتهاكاً جسيماً لقواعد القانون الدولي الإنساني.
واليوم وبعد مرور عام على تمكن الأسرى الستة "محمود العارضة، محمد العارضة، أيهم كممجي، يعقوب قادري، مناضل انفيعات، وزكريا الزبيدي" من تحرير أنفسهم من سجن "جلبوع" الإسرائيلي، عبر ما يُطلق عليه الفلسطينيون: نفق الحرية، نشعر ببالغ القلق من بقائهم في زنازين العزل الانفرادي واستمرار الإجراءات الإسرائيلية، اللا إنسانية وغير القانونية، بحقهم وبحق من ساعدهم في عملية "الهروب"، وبتنا نخاف عليهم ونخشى مما قد يلحق بهم من ضرر وأذى جرّاء الغضب والحقد الإسرائيلي. كما ونشعر بالقلق على الأسرى الآخرين جراء استمرار الإجراءات الانتقامية وتصاعُدها والتي ترقى إلى مستوى "العقاب الجماعي". مما يستوجب من الكل الفلسطيني الوقوف إلى جانب الأسرى، وتكثيف الجهود المبذولة عبر الوسائل والآليات الممكنة والمتاحة لنصرتهم وتعزيز مكانتهم القانونية والانتصار لعدالة قضيتهم.