يُروى أنَّ أعرابياً كانَ يرعى الإبلِ لقومهِ، فهاجمتهُ عصابةٌ من قُطّاعِ الطرقِ، واستوّلتْ على الإبلِ دونَ أنْ يفعلَ شيئاً سوى صعودِ تلةً لينهالَ عليهمْ شتماً حتى ساروا بالإبلِ، ولمّا عادَ إلى قومهِ سألوهُ عنْ الإبلِ فروىَ لهمّ القصةَ، فسألوهُ عمّا ُ فعلهُ لتحريرِ الإبلِ منْ اللصوص، أجابهم : " أوسعتهم شتماً وساروا بالإبلِ، فذهبتْ مقولتهُ مثلاً يُقالُ لكلِّ منْ يكتفي بما يقولهُ ليكونَ بديلاً عمّا يُفترضُ أنْ يفعلهُ ليأخذَ حقهُ، فينطلقُ لسانهُ بالشتمِ والشكوى والاستجداءِ، تماماً مثلَ خطابِ رئيسِ المنظمةِ والسلطةِ السيد محمود عباس الأخيرِ في الأممِ المتحدةِ الغنيُ بالشكوى والاستجداءِ، الذي أنهاهُ بقوله: "أُريد حلاً" وكأنَّ قضايا التحرر الوطني تُحلُ بالشكوى والاستجداء.
برعَ السيد محمود عباس في خطاب الشكوى والاستجداء، بلغةٍ ضعيفة يائسة، وبنبرةٍ منكسرة بائسة، فشكى من (إسرائيل) وبريطانيا وأمريكا والأمم المتحدة، واستجدى منهم الحل في نفس الوقت، فكان نصيب (إسرائيل) من الشكوى قيامها بالمذابح والتهجير والقتل والنهب والتدمير والسجن والاستيطان والتهويد والعنصرية، وإخلالها بالاتفاقيات، وتعطيلها للانتخابات... ونصيب بريطانيا من الشكوى وعد بلفور والتمكين لقيام الكيان الصهيوني، ونصيب أمريكا دعمها للكيان الصهيوني في كل جرائمه، ونصيب الأمم المتحدة ازدواجية المعايير، وعدم تطبيق قرار التقسيم، ورفض الاعتراف بدولة فلسطين...أمّا الاستجداء فقد توّزع خبط عشواء على كل فقرة في الخطاب، ابتداءً من استجداء الحماية " من شان الله احمونا احمونا من العدوان"، مروراً باستجداء الدولة الأمم المتحدة" نتمنى ونترجى ونقول لكم دخيلكم... نريد أنْ نعيش معهم مع إسرائيل"، وانتهاءً باستجداء الحل" انتظرنا طويلاً وتعبنا طويلاً... فهل لديكم حل.. نريد حلا".
السيد محمود عباس قدّم صورة المظلومية الفلسطينية أمام الوحشية الإسرائيلية، وسرد رواية الضحية الفلسطينية مقابل الجلاد الإسرائيلي، وشرح قضية الشعب الفلسطيني المجني عليه تحت الاحتلال ضد الكيان الصهيوني الجاني المُحتل... هذا كله جيد ومطلوب ولكنه لا يُحررُ أرضاً من احتلال، ولا يُخلّصُ شعباً من مُحتل، ولا يٌنقذُ وطناً من ضياع، والذي يُحررُ الأرضَ ويُخلّصُ الشعب ويُنقذُ الوطنَ هو التوقف عن خطاب الشكوى والاستجداء الذي يعيد إنتاج الفشل مرةً كل عام من على منصة الأمم المتحدة، والتخلّص من فكر التسوية السلمية والتعايش مع الاحتلال الذي قاد إلى الشراكة الأمنية والاقتصادية مع الاحتلال، والخروج من وهم السلطة (الوطنية) والدولة (المستقلة) إلى جانب الكيان والاستيطان، واستبعاد نخبة أوسلو الفاشلة عن لعب دور البطولة في فيلم التحرير الوهمي لإعادة إنتاج مشروع التحرير الحقيقي.
مشروع التحرير الحقيقي فكرته أنَّ الأوطان تُحرر بالمقاومة الشعبية المُسلّحة؛ كعمود فقري لكل أنواع المقاومة؛ وليس بالمقاومة السلمية فقط القائمة على فلسفة اللاعنف والتخلّي عن الكفاح المُسلّح التي يُطالب بها السيد محمود عباس ليلاً ونهاراً، وأكد عليها مراراً وتكراراً من على منصةِ الأمم المتحدة قائلاً: "لن نلجأ للسلاح.. لن نلجأ للعنف.. لن نلجأ للإرهاب.. سنحارب الإرهاب سوياً"، بطريقة تتناقض مع منطق الواقع وسُنن التاريخ وتجارب الشعوب.. التي تؤكد حتمية المقاومة المُسلّحة في حركات التحرير الوطنية لانتزاع الحرية.. وبطريقة تتنكر لتراث الثورة الفلسطينية والنظري والعملي ولتجربتي المقاومتين اللبنانية والفلسطينية في تحرير الأرض بالمقاومة المُسلّحة عامي 2000م في جنوب لبنان، و2005م في قطاع غزة.. وبطريقة تُخالف طبيعة الكيان الصهيوني القائم على الاستيطان الإحلالي، ونوع الصراع الوجودي التناحري معه القائم على العنف الإرهابي الذي يكافئه العنف الثوري.
وبدلاً من خطاب الشكوى والاستجداء وتقديم قرابين الولاء للغرب الاستعماري المُتحالف مع الكيان الصهيوني بمهاجمة المقاومة المُسلّحة تحت عناوين العنف والإرهاب كان من الأفضل للسيد محمود عباس البحث عن مكامن القوة الحقيقية لمشروع التحرير الكامنة في الشعب الفلسطيني، باستعادة وحدته الوطنية على أساس المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع المقاومة والتحرير، والذي يأتي عن طريقه الحل وليس بطريقة (أُريد حلاً).
(أُريد حلاً) تعني الشكوى والاستجداء ليأتي الآخرون بالحل.. والحل الحقيقي لا يأتي بهذه الطريقة الذليلة؛ بل تأتي من تراث الثورة الفلسطينية الموجود في أحد أناشيدها "الحل ما حدا علينا بيفرضوا.. والحل من غير طريقنا بنرفضوا" وكل أناشيد الثورة التي تتمسك بالمقاومة والسلاح طريقاً لتحرير فلسطين وعودة اللاجئين وانتزاع الحقوق.. والبديل عن الاحتلال والدعم الأمريكي والغربي له، ليس في استمرار النهج الذي يُكرّس الاحتلال، ولكن في استمرار المقاومة والجهاد حتى إنهاء الاحتلال وإزالة الكيان، وفي استمرار حشد طاقات الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية نحو مشروع المقاومة والتحرير وبوصلته فلسطين والقدس.