بعد اجتياح مدينة نابلس عام 2002، ضمن العملية التي اسميت “السور الواقي”، والتي كان يهدف الاحتلال منها إلى القضاء على المقاومة الفلسطينية المسلحة، سواء في جنين ومخيمها أو في نابلس وغيرها من مدن الضفة الغربية، حيث تكبدت مدينة نابلس بشكل خاص خسائر بشرية واقتصادية فادحة، بعد أن كانت تتربع على رأس الهرم الاقتصادي، كأكبر مدن الضفة من حيث النشاط التجاري، واحتياطي رأس المال.
إن المقاومة الفلسطينية المتصاعدة في الآونة الأخيرة بمدينة نابلس ومحيطها أعادت لها مجدها الأول قبل نحو عقدين من الزمن من خلال إعادة إحياء العمل المقاوم، خاصة في معقل المقاومة التي ما زالت تحافظ على تاريخها الكفاحي في البلدة القديمة؛ وبداية تشكل مجموعة ما عرفت في الأيام الأخيرة ب “عرين الأسود”، وهم مجموعة من الأشخاص في مطلع العشرينات من العمر، كانوا اطفالا التقطوا الصور التذكارية مع عشرات المقاومين الذين ارتقوا شهداء عام 2002 أثناء اجتياح البلدة القديمة للمدينة.
أصبحت تلك المجموعة التي أعلنت مرارا وتكرارا أنها لا تتبع لأي فصيل فلسطيني محدد، اصبحوا يشكلون مصدر خوف دائم لجيش الاحتلال والمستوطنين الذين ينتشرون كعصابات في شوارع قرى وبلدات المحافظة تريد القتل ليس إلا.
حاول الإحتلال أن يكسر شوكة المقاومة المنبعثة من جديد، بتطبيق سياسة الاغتيالات الفردية لتلك المجموعات ظنا منه في بادئ الأمر أنهم مجموعة من الأفراد، عددهم قليل، ويمكن التخلص منهم وإعادة الأوضاع الأمنية إلى سابق عهدها، لكن مع تنفيذ العديد من عمليات الاغتيال التي استهدفت الشبان في البلدة القديمة، وكان أولهم الشهداء الثلاث الذين اغتالتهم القوات الخاصة الإسرائيلية في منطقة المخفية غرب المدينة وهم ( محمد الدخيل، أشرف المبسلط، وأدهم مبروكة)، وكان آخرهم الشهداء إبراهيم النابلسي وإسلام أصبوح، وحسين طه، ومحمد العرايشي، تضاعفت عمليات إطلاق النار على جيش الاحتلال، وغدت تلك العمليات النوعية ورغم التشديدات الأمنية تضرب الاحتلال في معقله ضربة تلو الأخرى، سواء عند النقاط العسكرية البعيدة عن المدينة أو على المستوطنات المقامة على أراضي المواطنين في قرى المحافظة، ناهيك عن تضاعف أعداد الشبان المنضمين إلى مجموعة عرين الأسود حديثة التشكل، بالتالي عمليات الاغتيال التي نفذت قبل أشهر لم تؤت أكلها بالنسبة للاحتلال.
تضاعفت مخاوف الاحتلال بعد تشكيل عرين الأسود أولا، وفشل عمليات الاغتيال التي نفذت مسبقا من أجل الحد من عمليات إطلاق النار على جيش الاحتلال سيما أثناء اقتحام منطقة “قبر يوسف” في الجهة الشرقية للمدينة بهدف إقامة الصلوات التلمودية للمستوطنين في المكان آنف الذكر. المخاوف لدى الاحتلال تزايدت بعد مقتل جندي اسرائيلي كان يقوم مع مجموعة أخرى من الجنود بحماية مئات المستوطنين الذين كانوا يحتفلون بشكل استفزازي في منطقة المسعودية الأثرية غرب نابلس والتي يسعى الاحتلال إلى تهويدها كباقي المناطق الأثرية الأخرى.
أمام كل هذه المعطيات التي تشكلت للاحتلال برزت مؤشرات تفيد بنية الاحتلال تنفيذ عملية عسكرية واسعة في شمال الضفة سيما مدينة نابلس؛ تبع ذلك ارتفاع أصوات من قبل ضباط الاحتلال والساسة الاسرائيليين بضرورة تنفيذ عملية واسعة شبيهة بعملية ما السور الواقي، بالإضافة إلى ذلك استمرار الضغوط التي ما تزال تمارس على قيادة جيش الاحتلال من قبل ما يسمى بمجلس مستوطنات الضفة بدعوتهم لاجتياح نابلس وجنين، وتنفيذ عملية “سور واقي 2“.
في بادئ الأمر اتبع الاحتلال سياسة “طنجرة الضغط”، وهي رصد الشبان الذين تصنفهم بالمطلوبين ومحاصرتهم في المكان المتواجدين فيه حال وصول معلومة من قبل جهاز المخابرات المسمى بالشاباك عن مكانهم، ومن ثم اطلاق النار والصواريخ المضادة للدروع باتجاههم، وبالتالي إما تصفيتهم أو اعتقالهم. بيد أن هذه السياسة لم تجد نفعا بعد تنفيذ العديد من العمليات منها، والتي أدت إلى ارتقاء عشرات الشهداء في نابلس وجنين، بالإضافة إلى تضاعف عمليات إطلاق النار على جيش الاحتلال والتي طالت أبعد النقاط التي يمكن أن تصل إليها بنادق الشبان المقاومين، وبالتالي فشل هذه السياسة الاحتلالية في الاغتيال والاعتقال للمقاومين، والبدء مرة أخرى بسماع بعض آراء العسكريين المتقاعدين والذين خدموا في مناطق الضفة الغربية خلال السنوات الماضية، وبعض الساسة منهم، وبالتالي أصبح التفكير جديا بإمكانية تنفيذ عملية عسكرية داخل نابلس مع تزايد الضغوط على قيادة جيش الاحتلال.
لا شك في أن هناك ترددا لدى جيش الاحتلال في تنفيذ عملية واسعة، وربما يكون ذلك تخوفا من اندلاع انتفاضة ثالثة في كل مدن الضفة، وهذا بالتأكيد ما لا تريده قيادة الاحتلال، لكنه استخدم سياسة جديدة نشهدها في الأيام الأخيرة، وهي محاصرة نابلس وعزلها عن محيطها الخارجي بشكل كامل، من خلال إغلاق الحواجز العسكرية التي تطوق المدينة، أو بإغلاق بعض مداخل القرى والبلدات بالسواتر الترابية.
إن هذه السياسة التعسفية القديمة الجديدة التي ينفذها الاحتلال حاليا ضد المدينة ومحيطها ليست فقط عقابا جماعيا ضد عشرات آلاف المواطنين بقدر ما هي خطوات مدروسة، وتأتي ضمن خطة نسجت خيوطها من قبل أعلى المستويات لدى الاحتلال، ويتم تنفيذها على أرض الواقع في مشهد يعيدنا إلى ما قبل عقدين من الزمن، عندما كان المواطنون يسلكون الجبال والطرق الوعرة للوصول إلى وجهتهم سواء للتعليم أو للعمل والتجارة وغيرها. إذا ما تفحصنا هذه الإجراءات التنكيلية الاخيرة بحق المواطنين، واحتجاز المئات من المركبات على شكل طوابير طويلة لساعات ومنعها من دخول وخروج المدينة، وغيرها من الأعمال التنكيلية يدفعنا للتفكير مليا عن النية المبيتة للاحتلال بضرب اقتصاد المدينة التي طالما عانت من ويلات هذه الإجراءات العقابية خلال العقود الماضية، وأدت إلى تكبيدها خسائر اقتصادية فادحة لم تتعاف منها المدينة إلا مؤخرا.
إن استمرار الاحتلال بمحاصرة المدينة يفيد بما لا يدع مجالا للشك بأنه يهدف إلى ضرب وإضعاف اقتصاد المدينة، وإعادة الوضع الاقتصادي للمدينة إلى ما قبل عقدين، وربما هذه الإجراءات المتخذة ضد المدينة هي الخطوة قبل الأخيرة لتنفيذ عملية عسكرية ضدها خصوصا اذا ما تضاعفت عمليات إطلاق النار على جيش الاحتلال والمستوطنين من قبل المقاومة في نابلس والتي تتضاعف قوتها وعدد أفرادها يوما بعد آخر