اسم الأسير المشاكس ياسر المؤذن من الأسماء التي خُطّت على حيطان السجن حتى يومنا هذا، ليكون تاريخًا وحاضرًا ومستقبلاً، يستمد بقية الأسرى بعضًا من حيله الذكية التي خرق بها قوانين السجان. فعلى أرض فلسطين لا قوانين نافذة سوى قوانين أبناء الأرض المقدسة المناضلين، ولا مستقبل لمحتل طالما هناك من يقاوم من خلف قضبان الأسر، كياسر الذي حاول رمي مولوتوف وسط محكمة مدججة بالحرس المسلح، وقاوم "قاضي" الظلم بكل شجاعة وبسالة...
مولوتوف في السجن
التقى ياسر بالشيخ أحمد ياسين في معبار "هشامون"، حيث كان بمثابة الأب لياسر وللأسرى كافة. كان معهم أسير جريح داخل السجن، ومن ضمن أدويته التي كان يضمد بها جراحه علب الكحول، فكان ياسر يجمعها ليصنع منها المولوتوف.
عندما رآه الشيخ أحمد ياسين، واستفسر منه عن الأمر، أخبره ياسر أنه ينوي رميها داخل المحكمة، تزامنًا مع جلسته المقبلة. ولكن الشيخ ياسين استطاع منعه من القيام بهذا العمل المتهور، خوفًا منه على ياسر. واقتنع الأخير بالتخلي عن الفكرة، لكنه راح يبحث عن خطة بديلة، لينفذها داخل المحكمة.
مواجهة "قاضي" الظلم
سأل ضابط القضاء العسكري ياسر إذا كان سيقف للقاضي عند دخوله الجلسة، فأجابه "ولو، نحنا سيادة القاضي عراسنا"، وهنا تكمن الخطة؛ فإذا امتنع الأسير من الوقوف، يعني ذلك عدم اعترافه بالقاضي وبالمحكمة، ويتم إخراجه من المحكمة، ويصدر الحكم غيابيًّا. لذلك اتفق ياسر مع صديقه الأسير "مهيوب"، على أن يقلده بكل ما يفعله. وكان مهيوب من الأشخاص الذين يفعلون، ولا يتكلمون.
عندما بدأت الجلسة، ودخل القاضي، لم يقف له ياسر، الأمر الذي أثار جنون العساكر الذين بدأوا بالصراخ عليه ليقف، لكن بلا جدوى. وعند جلوس القاضي قام ياسر بالوقوف، وبدأ يشتم القاضي، ويهدده قائلاً: "رح يجي ابن ابني يحكم ابن ابنك بهالمحكمة". هنا فقد القاضي عقله تمامًا، وأمرهم بإخراجه من المحكمة. في هذه اللحظة انتبه ياسر لمهيوب الذي ما زال جالسًا، ولم يقلده بشيء، فقال له: "لك قوووم، سبّ عليه متل ما عم سبّ"... أخرجوهما من المحكمة، وقام جنود الاحتلال بضربهما ضربًا مبرحًا. لكن ياسر كان قد انبطح أرضًا، وفوقه سقط "مهيوب"، ليتلقى الضربات كلها عنه. أما ياسر، فكان لا يسمع سوى صرخات "مهيوب" الذي فقد سمعه بسبب ضربة تلقاها على أذنه.
حكم المحكمة
حكم ياسر في محكمة اللد العسكرية بتهم متعددة، منها: التنظيم بدون إذن، حمل سلاح بدون رخصة، التسلل عبر الحدود بدون أوراق رسمية. وقد حكمت عليه محكمة الاحتلال بخمس وعشرين سنة. وعندما أخبره المحامي والأسير "عبد المالك دهامشة" بمدة الحكم، أجاب مندهشًا: "بسس 25!! أنا كيف بدي أقابل الشباب جوا بالسجن وكلهم مؤبدات إلا أنا 25 سنة، كيف بدو يكون منظري قدامهن؟!!".
يا لعزيمة هذا الأسير الذي خجل من نفسه أمام مدة حكمه القليلة، متمنيًا حكمًا لا يقل عن مؤبد واحد، ليتفاخر به، وبإنجازاته التي جعلته أسيرًا شامخًا في سجون الاحتلال.
للوهلة الأولى يُخيّل للإنسان أن هذه قصة مأخوذة من مسلسل خيالي، فكيف لأسير قابع في سجون الاحتلال، وتحت رحمة السجان وجنوده، أن يكون بهذه الإرادة الصلبة المقاومة؟! لا يخشاهم وهو أسير في سجونهم، يحركونه كما يشاء، لكنه قلب الطاولة والموازين، وجعلهم كالطابة بين يديه، يركلهم يمينًا ويسارًا. تمامًا كما فعل بهم عندما احتال على قاضي المحكمة، ليسمح له بالتكلم مع عائلته عبر الهاتف. وهذا كان سابقة تاريخيّة لدى الاحتلال الذي لا يتساهل في تطبيق قوانينه، والتضييق على الأسرى لكسر إرادتهم وعزيمتهم.
هذا ما سوف نستكمله في الجزء الثالث من حكاية "ألف استفزاز واستفزاز"، مع بطلها الأسير المشاكس ياسر.