دخلت "إسرائيل" عام 2023م، وهي تواجه مجموعة من التهديدات الاستراتيجية، على عدة مستويات، فكما أوضح التقدير الاستراتيجي لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي في مقدمته، أن "إسرائيل" على المستوى الدولي تواجه صراعاً محتدماً بين الولايات المتحدة الأميركية وبين الصين على التأثير في الخارطة الدولية، بالإضافة إلى الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ووصولها إلى حد يمنع "إسرائيل" من التزامها بسياسة الحياد.
هذه التهديدات تقلل من هامش المناورة الإسرائيلية في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية، بل وتجعلها مطالبة بإحداث تغيير استراتيجي في سياستها الخارجية السائدة حالياً، خاصة أن التهديد الخارجي الأخير مرتبط بوصول إيران إلى دولة شبه نووية، كما يتحدث التقدير الاستراتيجي، وأن ذلك معناه انهيار حقيقي لأسس الأمن القومي الإسرائيلي، المبني على احتكار القوة النووية في الشرق الأوسط، كقوة ردع استراتيجية.
ولكن الإشكالية الإسرائيلية تكمن في قدرة "إسرائيل" على مواجهة المشروع النووي الإيراني، سواء من خلال التجهيز لخيار عسكري إسرائيلي لتدمير المشروع النووي الإيراني، كما أمر بذلك رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت قبل عام، أو من خلال إقناع الأميركيين والأوروبيين بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، أو بالتأثير في أي اتفاق بين الأميركيين والدول الخمس مع إيران بما يتناسب مع الأمن القومي الإسرائيلي.
كل ذلك مرتبط بقوة العلاقات الإسرائيلية-الأميركية، وهنا تبرز معضلة الوضع الاستراتيجي الراهن لـ"إسرائيل"، والمتمثلة في أن حلول إشكاليات التهديدات الخارجية الاستراتيجية للأمن القومي الإسرائيلي، تتعارض مع سلوك الحكومة الإسرائيلية في مواجهة التهديدات الداخلية الإسرائيلية، والتي يمكن إجمالها في الآتي:
أولاً، تأكُّل قوة السلطة الفلسطينية، وخاصة في الفترة ما بعد الرئيس محمود عباس، وزيادة وتيرة المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس، الأمر الذي ينذر باندلاع انتفاضة واسعة هناك. في المقابل، وجود حكومة إسرائيلية ترفع الاستيطان كاستراتيجية مركزية أولى في سلم أولوياتها، الأمر الذي سيلغي ما كان يسمّى الخط الأزرق، وتطبيق الضم للضفة الغربية، ويأخذ "إسرائيل" صوب "الدولة" الواحدة ثنائية القومية بكل ما يحمله ذلك من خطورة على فكرة "الدولة" اليهودية الديمقراطية، ويغلق أي حديث عن حل الدولتين، بما يحمله من معارضة أميركية ودولية.
ثانياً، الاستقطاب الداخلي الإسرائيلي المجتمعي والسياسي، والذي يتمثل بتأكُّل القيم الليبرالية والديمقراطية داخل "إسرائيل"، والذي عبّرت عنه التعديلات القضائية، التي ووجهت بتظاهرات غاضبة من فئات عديدة وواسعة داخل "إسرائيل"، والتي زادت حدّتها إلى درجة التحذيرات المتتالية من قادة كبار سياسيين وأمنيين وعسكريين من حرب أهلية داخلية، وانهيار الدولة المتمثل بعقدة العقد الثامن كما أوضحها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك.
وهنا، تجدر الإشارة إلى الموقف الأميركي المتخوّف من تأكُّل القيم الليبرالية المشتركة مع "إسرائيل"، وخاصة في ظل إدارة أميركية ديمقراطية، لديها تيار ليبرالي ثوري قوي في داخلها.
ثالثاً، توتر العلاقات الإسرائيلية مع يهود الولايات المتحدة الأميركية، في ضوء ارتفاع منسوب التطرف الديني داخل الحكومة، وتأثير ذلك التيار في علاقة الدين والدولة في "إسرائيل"، بما يحمله من تهديدات على تعريف اليهودي في "إسرائيل"، وتداعيات كارثية على يهود أميركا، وأغلبهم من اليهود الإصلاحيين الذين يعدّهم اليهود الأرثوذكسيين خارج تعريف اليهودي، ناهيك بزيادة الفجوة بين الجيل الجديد والشاب بين يهود أميركا وبين "إسرائيل" في ضوء سياساتها الاحتلالية العنصرية ضد الفلسطينيين، والتي برزت بزيادة أعداد اليهود في أميركا المشاركين في حملات مقاطعة "إسرائيل"( B _ D _ S)، الأمر الذي يهدد قدرة تأثير اللوبي الصهيوني في كل من الكونغرس والبيت الأبيض هناك.
مما سبق، نجد أنه بالإضافة إلى التعارض بين الاستراتيجية الإسرائيلية المطلوبة لحل إشكالية التهديدات الخارجية، وبين استراتيجية الحكومة في التعامل مع التهديدات الداخلية، أن تلك التهديدات مرتبطة ببعضها البعض، وتشابكها أكبر من إمكانية الفصل بالحلول بينها. ولذلك، لا يمكن لـ"إسرائيل" أن تضع استراتيجيات مختلفة لكل نوع من التهديدات، بل مجبرة أن تكون هناك استراتيجية واحدة متكاملة لمعالجة التهديدات الخارجية والداخلية كافة، الأمر الذي يتطلب حسابات دقيقة من صنّاع قرار الأمن القومي الإسرائيلي، والأهم تحديد أولويات الأمن القومي الإسرائيلي، والقدرة على التنازل في بعض الملفات في مقابل تعزيز بعض الملفات الأخرى.
وهنا، يطرح سؤال جوهري، هل يمكن لصنّاع قرار الأمن القومي الإسرائيلي الحالي القيام بذلك في ظل الأجواء التي تمر بها "إسرائيل"؟ أم أن هذا الأمر متعذر حدوثه داخل "إسرائيل" حالياً؟
نعتقد أن الإجابة عن هذا التساؤل تتطلّب تحليلاً لوضع أهم الجهات الصانعة لقرارات الأمن القومي الإسرائيلي وقدراتها، سواء بشكل رسمي مباشر أو بشكل غير رسمي وغير مباشر، وأهمها:
أولاً، الحكومة والكابينت الإسرائيليان، بات من الواضح أنه في ظل وجود الصهيونية الدينية والحريديم كقوة مركزية داخل الحكومة والكابينت، وعدم قدرة نتنياهو على التحكم في تلك القوى السياسية الدينية المتطرفة، ذات الأجندة الأيديولوجية الفاشية، كما حدث في أكثر من واقعة خلال عمر الحكومة القصير.
إن تشكيلة الحكومة الحالية هي أهم أجزاء الإشكالية، ولا يمكن لها أن تكون صانعة حلول استراتيجية، فرغم أن نتنياهو حدد ثلاثة خطوط عامة لحكومته في خطاب التنصيب، وهي، مواجهة المشروع النووي الإيراني، وتوسيع دائرة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية وخاصة السعودية، ومواجهة المقاومة الفلسطينية، لكن تأثير الصهيونية الدينية جعل الملف الفلسطيني والاستقطاب الداخلي اليهودي هما الأكثر أولوية في أهداف الحكومة، رغم كل التحذيرات من الانعكاسات السلبية لهذا الأمر على الأهداف الأخرى.
أضف إلى ذلك، أنه حتى في الملف الفلسطيني، هناك نوع من أنواع الديماغوجية والعشوائية من قبل وزراء الكابينت المؤثرين في صنع القرارات المتعلقة بالملف الفلسطيني، وفي مقدمتهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير الأمن داخل وزارة الحرب بتسلال سيموتريتش، كما أن تصرفاتهم وقراراتهم تزيد من حجم التهديدات ولا تقللها، وتؤدي بالأمور إلى مزيد من التصعيد، كما حذر من ذلك رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار.
ثانياً، المؤسسة العسكرية و"الجيش"، رغم أن "الجيش" الإسرائيلي يلعب دوراً مركزياً غير مباشر في صنع قرارات الأمن القومي الإسرائيلي، فإن تأثير "الجيش" بات أقل مما سبق، في ظل الحكومة الحالية، التي سحبت الكثير من صلاحياته في الملف الفلسطيني والضفة الغربية والقدس، لدرجة أن البعض يتحدث عن وجود رئيسي أركان ووزير حرب في الحكومة الحالية، ولذلك بدأ "الجيش" ورئيس أركانه يخوضان معركة الصلاحيات والموازنات مع أقطاب الحكومة الحالية، والتي تهدد بانهيار الائتلاف الحكومي ما لم ينفذ نتنياهو اتفاقات الائتلاف الحكومي الموقع عليه.
من الجهة الأخرى، يخوض "الجيش" المعركة وحده داخل الكابينت من دون تدخل جاد وصارم من نتنياهو، الذي يحاول هو الآخر أن يخلق صداماً بين "الجيش" وحلفائه في الائتلاف من أجل زيادة هامش سيطرته على الحكومة.
أضف إلى ذلك، تأثيرات حالة الاستقطاب المجتمعي الداخلي في "إسرائيل"، والتي باتت تهدد بدخول "الجيش" إلى معترك الاستقطاب الداخلي السياسي والأيديولوجي، كما حذر من ذلك الجنرال المتقاعد يتسحاق بريك، وبالتالي يفقد "الجيش" ميزته بأنه جسم فوق حزبي وفوق أيديولوجي يمثل بوتقة الصهر الإسرائيلية، والأهم سطوته في صنع قرارات الأمن القومي الإسرائيلي.
ثالثاً، الولايات المتحدة الأميركية لها دور مهم في صنع توجهات الأمن القومي الإسرائيلي، سواء بتدخلها المباشر أو بواسطة علاقاتها القوية مع كل من المؤسسة العسكرية والحكومة في "إسرائيل". ولكن، في ظل هذه الأجواء الإسرائيلية، من الواضح أنه، رغم تدخل الرئيس الأميركي جو بايدن غير المسبوق، وتحذير السفير الأميركي في "إسرائيل" لنتنياهو، فإن اعتبار جزء كبير من الحكومة أن تدخل الولايات المتحدة الأميركية يصبّ في مصلحة طرف سياسي وتوجّه أيديولوجي معين، جعل من تأثير الأميركيين أقل مما كان في السابق.
في المحصلة، إذا استمرت الأمور في "إسرائيل" على حالها، ولم يحدث أي تغيّر دراماتيكي في شكل الحكومة الإسرائيلية الحالية وتوجّهها، وإذ نعتقد أن إحداث مثل هذه التغيّرات في المدى المنظور صعب جداً، لتلاقي مصالح أركان الائتلاف الحكومي الحالي، فإن "إسرائيل" لن تستطيع تغيير اتجاهاتها الاستراتيجية الحالية، والاجتهاد بصوغ استراتيجية جديدة تتواءم مع المتغيرات الجديدة التي تفرضها التهديدات الخارجية والداخلية التي تواجهها، ولكن الأخطر أن تلك التهديدات تتعاظم داخلياً وخارجياً، حتى الوصول إلى لحظة ما لن تفيد معها أي استراتيجية إسرائيلية جديدة.