وأتى من هناك، من حوارة البطولة والفداء، بلدةٌ فلسطينية أصيلة، لا تفهم لغة الحوار مع المحتل، بأسها شديد على عدوها، تعرِفُ لُغَتَهَا بسلاحِهَا.. نابلس جبال النار تشهد بعراقة المكان، وأصالة المنبت، وصدق المنهج، رجل خالص لا شية فيه، خرج من بيته وفي قلبه تتجلى آيات العزة والفخر.. فخرٌ بانتمائه إلى أرض فلسطين المباركة، فخرٌ بدماء الشهداء، فخرٌ بدرب الجهاد والفداء، فخرٌ بالكرامة والإباء، حدَّق بعمق في كبد السماء، زرقاء صافية تسر الناظرين، الشمس تنشر خيوطها الدافئة لتناغم جبال ووديان الأرض المباركة، أشعتها الحنونة تُبشِّر ببزوغ مجد جديد وتحقيق أمله في العيش على أرضه بحرية، ترنوا عيناه إلى الحرية والانعتاق من لعنة الاحتلال.
كانت عقارب الساعة حينها قد اجتازت الواحدة ظهر يوم الأحد، استقل سيارته ومضى يسير في دروب فلسطين الباسلة، تجذبه بحنانها ورقتها، وتأسره بجمالها وحبها، كانت وجهته واضحة وطريقه محسوم، لم يكن يقصد وزارةً أو مؤسسةً رسمية أو بنكاً أو حتى مقهى شبابياً أو مركزاً تجارياً.. دار بينه وبين نفسه حوار داخلي: "أما آن لعروس العروبة أن تُعتَقَ؟" وفجأة! وصل الحاجز.
شاهدهما.. مغتصبان عابسان تلفح وجهيهما النار، قادمان من مستوطنة إسرائيلية جاثمة على أرض عريقة، كل ما فيهما يشبه الذلة، يشبه الجبن والخسة، كالحان لا يرقبان في فلسطينيٍّ إلَّاً لهما ولا ذمة، لا يشبهان التاريخ ولا ينتمون إليه، تلفظهما الثرى والثريا.
أُشْعِلَت نار المجد في قلبه، براكينُ الثأر في عينيه متأججة، صدمهما بسيارته، ثم نزل مرفوع الهامة، منتصب القامة، ممتشقاً سلاحه وأطلق النار صوبهما، كان قد أعدَّ نفسه مسبقاً لهذه اللحظة.. منذ أشهر بدأ بادخار ماله شيئاً فشيئاً لشراء السلاح، وما إن اكتملت قيمة المبلغ الإجمالية، سارع واشتراه، السلاح هناك علامة الرجولة، علامة العزة، علامة الرفعة، السلاح هناك يعني الشرف!
اخترقت رصاصته قلبيهما الحاقدين، معيةُ الله كانت معه، سدَّدت رميه وأحكمت إصابته، كان مستلهماً قول الله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى"، قتلهما على ثرى أرضه المباركة، دماؤهما النجسة اختلطت بالتراب الطاهر.. لا بأس فالجهاد هو الكفيل الوحيد لتطهير الأرض والعرض من النجاسة والرجس.
قتلهما.. ثأراً لدماء الشهداء، أبطال كتيبة نابلس، قائدها: محمد أبو بكر الجنيدي ورفيقه حسام إسليم، ومن قبلهما النابلسي، ووديع الحوح، وجميل العموري، وتامر النشرتي، ونعيم زبيدي، وغنيم، والسعدي، وخليلية، ونزال، وحمامرة، وكل الشهداء الذين جادوا بدمهم الطاهر فداءً لهذه الرسالة المباركة.
واهمٌ من يظن أن غربال الخيانة والمؤامرات الذي تُحيكه دول محور الشر بقيادة رأس الأفعى أمريكا، في الغرف السوداء المظلمة، بإمكانها حجب نور المقاومة وضيائها الذي خُطَّ بدماء الشهداء آناء الليل وأطراف النهار، واهمٌ من يظنَّ أن قمة العار في العقبة بإمكانها لجم المقاومة والقضاء عليها، واهمٌ كل الوهم من يظن أن المقاومة ستوقف جهادها على شبر واحد من فلسطين، فهذه الأمة -كما قال الأمين العام المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي- على موعد مع الدم، دم يلون الأرض، ودم يلون التاريخ، ودم يلون الأفق، ودم يلون الدم؛ دفاعاً عن هذه الأمة وكرامتها.
آمن بَطَلُنا بوحدة الساحات منهجاً لا تنازل عنه ولا حياد، لا يُفرِّق بين مدينة أو أخرى، لا يفرق بين نابلس أو جنين، ولا بين غزة أو الضفة، ولا بين الداخل المحتل أو الشتات، وحدة الساحات دليل إرادة، ودليل تحدٍ، ودليل اشتباك مستمر.
قتلهما، أراح البلاد والعباد من شرورهما.. ثم مضى مُكملاً دربه، قال كلمته بالرصاص، الرصاصة أبلغ من الكلمة، والميدان أصدق إنباءً من الكُتُبِ، فلا مجد إلا بالسيوف المشهرة والطلقة المشرعة، صَدَقَ فِعْلُهُ قولَهُ وتجهيزَه وإعدادَه، فظفر بالتمكين والسؤدد.
