كان لابد للمقاومة حتى تتم مناسكها وتؤدي طقوسها أن ترجم العقبة الكبرى، وأن ترميها بحجارةٍ من سجيلٍ، وتقذفها بحصىً من فلسطين، وأن تطلق النار على شياطين العصر وأبالسة الاحتلال، وهو ما قام به المعتز بالله قبل أن تجف دماء شهداء مخيم جنين، ويغادر المستعربون الجبناء المدينة إلى خارجها، وهم الذين دخلوها لتنفيذ جريمتهم النكراء تحت غطاءٍ كبيرٍ من غرف العمليات المركزية والطائرات المسيرة ووسائل الاتصال الحديثة وسبل السيطرة والتحكم المتطورة، ولولاها ما تمكنوا من الدخول إلى المخيم، فهم أجبن من أن يواجهوا أطفال فلسطين وصبيانها، فما بالهم بشبانها الشجعان رجالها الأبطال.
عَمَّرَ المعتز بالله صلاح الخواجا مسدسه بجمراتٍ كبيرةٍ، وهيأ نفسه ليرمي بها العدو الخبيث حيث أمكنه، ولكنه عزم على أن ينال منه في مكمنه، وأن يهاجمه في قلبه التجاري، وشارعه الأشهر ومدينته الأكبر، فشد الرحال وأسرع الخطى نحو تل أبيب، ودخل إلى شارعها الأشهر "الديزنكوف"، التي اعتادت المقاومة الفلسطينية دوماً أن تنال منه قديماً، وأن تنفذ فيه عملياتها حديثاً، حتى غدا شارع الذعر والخوف، ومجمع الذكريات الحزينة والدماء النازفة والجموع الهاربة المتعثرة الخطى الخائفة.
بلا خوفٍ أشهر المعنز بالله مسدسه وأطلق العنان لجمراته المتقدة لتصيب المستوطنين الذين قتلهم الهلع قبل الإصابة، وأرعبهم الصوت ولو لم يطالهم رصاصه ويصيب أجسادهم بناره، فهم كانوا يظنون أنفسهم أنهم في قلب تل أبيب المدينة النقية الخالصة لهم وحدهم والأقدم في كيانهم، التي لا يقوى الفلسطينيون على دخولها عُزَّلاً، فإذا بهم يدخلونها مراراً بمسدساتهم التي حار الاحتلال في كيفية وصولها إليهم، وهاله قدرة المقاومين على استخدامها وإعادة حشوها والقتال بها ركضاً وقياماً وقعوداً وجثياً وعلى جنوبهم.
هذه المرة لم يتمكن الشيطان الأكبر إيتمار بن غفير من الوصول إلى مكان العملية، ليتشدق ويصرح ويرغي ويزبد ويهدد ويتوعد كعادته، فقد نصحه مستشاروه بألا يذهب إلى المكان، وألا يواجه المستوطنين الذين قد يرجمونه بالحجارة، ويصبون عليه جام غضبهم، فهو الذي وعدهم بالأمن فإذا به يغرقهم في حمامٍ من الدم، ويدخلهم في دوامةٍ من فقدان الأمن لا تنتهي، فالفلسطينيون ما عادوا يخشون تهديداته، ولا يخافون من إجراءاته، ولا ترعبهم تصريحاته، بل باتوا يواجهونه بنفس أدواته، ويرجمونه بنفس حجارته، ولعلهم يسقطونه كما أسقطوا مَنْ قبله، فقد سبقه إلى الجعير والنهيق أفيغودور ليبرمان وسكت، ونفتالي بينت واعتزل، وغيرهم من كبار قادة أركان جيش الكيان الذين خنسوا وغابوا.
أراد المعتز بالله صلاح الخواجا أن يقول بمسدسه الصغير لكيان الاحتلال البغيض أن الفلسطينيين لن يصعروا خدهم بعد اليوم، ولن يستمرؤوا الذل أبداً، ولن يناموا على الضيم، ولن يستسلموا للظلم مهما اشتد وقسا، ولم تخيفهم القوة المفرطة ولا السلاح المميت، وأنهم سيردون على كل جريمة، وسيثأرون لكل شهيدٍ، وسينتقمون من كل قاتلٍ، وسيصدون المعتدين أياً كانوا، جيشاً بالسلاح مدججاً، أو مستوطنين غوغاء بالأحقاد مسلحين، ولن يكون في سجلهم جرائم بلا عقابٍ أليمٍ وعدوان بلا صدٍ قويٍ أو ردٍ موجعٍ.
كما أراد وهو المعتز بالله والمؤمن به، والواثق به والمتوكل عليه، وقد سلم نفسه له، وَوجَّه وجهه إليه، وآمن بوعده واطمئن إلى قضائه، واستبشر بلقائه، أن يقول لمن اجتمعوا في العقبة وتآمروا على الشعب الفلسطيني وقضيته، ووضعوا الخطط والبرامج لمواجهته والتصدي له، أنكم تخطؤون إذ تظنون أن الفلسطينيين سيخافون جمعكم، وسيخشون اتفاقكم، وأنهم سيلقون سلاحهم وسيتخلون عن حقوقهم، وسيطأطأون رؤوسهم لحكومة اليمين المتخبطة، ورئيسها المرتعش، وأقطابها المتطرفين.
قال المعتز بالله بالدم والنار لأهله الفلسطينيين الذين يعانون يومياً من بطش الاحتلال وعدوانه، ولأهل الشهداء وذوي الجرحى والمصابين، لجنين ونابلس والقدس، ولغزة ورام الله وقلقيلية، وبيت لحم وطولكرم والخليل، ولطوباس وسلفيت وكل فلسطين، ألا تحزنوا على ما أصابكم، وألا تيأسوا من حالكم، فنحن بإذن الله الأقوى والأقدر، ونحن الأثبت والأبقى، ومقاومتنا ستمضي وستستمر، وستقوى وستشتد، مهما حاولوا إضعافها، أو سعوا لاستهدافها، فستبقى بإذن الله عز وجل جذوتها متقدة، ونارها مستعرة، حتى يتحقق النصر وننجز الوعد ونحرر الأرض.
رسالة المعتز بالله صلاح الخواجا واضحة للعدو ومباشرة له، وهي لغيره ممن تحالف معه ونصره، وساعده وأيده، وتعهد بضبط الأمن له وتهدئة الأوضاع لصالحه، أن الدم بالدم والقتل بالقتل، وأن المعتدي على الشعب الفلسطيني لن ينتظر أن ينثر عليه الأرز والورود، بل سيذوق من ذات الكأس، وسيتجرع ذات الألم، وستنال منه المقاومة وستوجعه، وهي على ذلك بإذن الله قادرة، ولوعدها صادقة وأمينة، فذراعها باتت طويلة، وعينها بصيرة، وشبانها أفذاذ، وأبطالها شجعان، ورجالها أماجد، وكلهم للشهادة يتنافس ونحو المقاومة يتسابق، وإلى صفوفها الأولى يتقدم.