تجاوزت أم عبد الرحمن هول صدمتها باستشهاد زوجها القائد خضر عدنان في زنزانته الإسرائيلية جائعاً منذ لحظة اعتقاله قبل سبعة وثمانين يوماً، وأطلقت صرختها، "أيها المحتلون احفظوا وجوه أبنائي التسعة جيداً"، وهي تكتم ثأر فارسها في مستقبل الأبطال التسعة، ولكن الصبيّ البكر عبد الرحمن اختصر الحاضر والمستقبل في فجر الرحيل، وهو محمول على أكتاف الشعب، صارخاً: يا خضر ويا مظلوم نادينا واحنا بنقوم. إنها القيامة إذن، نهوض يراه هذا الصبي وقد حمل إرث خضر عدنان الثقيل.
كنت أصغي لأم عبد الرحمن في مؤتمرها الصحفي، وهي تطلق قنابلها بكل ثقة واتزان، وما زلت منذ الفجر عاجزاً عن الكلام، أمتنع عن الرد على وسائل الإعلام، وأحاول أن أخلو بنفسي، هرباً من اختناق يتربع على صدري ولا يكاد يفارقه، وأنا الذي سبق أن ودّع جمعاً من الإخوة والأصدقاء الشهداء، ولكني أجد نفسي اليوم أمام اختبار أخ وصديق رحل عنا مع سبق الإصرار، وترك في قلوبنا حسرة ووجعاً نزول عنه ولا يزول.
هل هي لحظة نهوض كما استبشر عبد الرحمن وهو محمول على الأكتاف؟ أم هي مسافة انتظار لتسعة سيثأرون؟ جواب ذلك في كل ثانية زمنية تمر الآن، والشعب الذي ضحى لأجله خضر عدنان أمام اختبار التطويع أو التثوير، كل لحظة تمر بعد فجر الثاني من أيار/مايو، ولا تحمل نهوضاً فلسطينياً متسارعاً، تعني انكساراً وتطويعاً، بخلاف قيامة خضر عدنان التي عمّدها بزفرات جوعه في خمسة إضرابات طويلة متتالية عن الطعام، وبحركته الكفاحية التي وصل فيها جنوب الضفة بشمالها، في بيوت الشهداء والأسرى وساحات المواجهة مع المحتلين.
لحظة خضر عدنان الفارقة مفترق طريق لا تخطئه عين شعب يكافح بالفطرة، فاستشهاد خضر وهو مفجر معركة الأمعاء الخاوية ضد الاعتقال الإداري، ثم ضد الاعتقال التعسفي، بعزيمة ليس لها مثيل، وعناد جذري حادّ يشبه المستحيل، هذه اللحظة الفارقة في تسارعها الزمني، يمكنها أن تشعل بركان نهوض، أو تكون البديل الإجباري؛ انكساراً وندامة وخسائر في غير ميدان.
استشهاد خضر في زنزانة وليس في مشفى، وهو المضرب عن الطعام منذ ثلاثة أشهر، من دون مدعمات ولا فيتامينات، هو عملية إعدام إسرائيلية صريحة، فهل جاءت عملية الإعدام هذه في توقيت تجهّز المحتل للدخول في حرب، كما يروّج البعض للهرب من استحقاق خضر عدنان؟ أم جاءت لتكون أول عملية إعدام في الأسر، يتم من خلالها جس نبض الشعب ومقاومته، تمهيداً لسن قانون إعدام الأسرى، أو هي الرد الإسرائيلي على ضربات شهر رمضان؟
منذ قيام الكيان الصهيوني وهو متهيئ للحروب، خاصة وهو يستفرد بضحية هنا أو ضحية هناك، حتى بدأت ساحات المواجهة تتحد، وكانت خطوتها الأولى في رمضان الماضي، حيث انكفأ بطش المحتل خطوة إلى الخلف، برفع يده عن المعتكفين، مع تعليق اقتحامات المستوطنين للأقصى، وإن لم يكفّ كامل وحشيته، وتردد في الإعلام الإسرائيلي أن كيانهم يتحضّر لعملية اغتيال ثقيلة بعد رمضان، وهي ربما تكون في لبنان، ولكن تحذيرات السيد حسن نصر الله، بحرمة دم الفلسطيني كأخيه اللبناني في كامل أرض لبنان، لجمت شهية نتنياهو وعصابته.
فالمحتل وفق الميدان متردد، ويقيس خيارات بطشه وفق معادلات القوة والضعف، أو لنقل معادلة العزيمة والهوان، ومعركته الراهنة بدأت من هنا في جنين والضفة، حيث اشتعل عود الثقاب منذ عامين، ونصف جيشه النظامي ما زال يقاتل فيها وحولها، والتطورات ظل رباطها هنا، كيوم بدأت الساحات تتحد، فهل يكون اغتيال خضر عدنان ابن جنين وفارسها الأول في زنزانته مجرد صدفة أم عملية محسوبة بإيقاع إسرائيلي ثأريّ؟
إن مرور عملية اغتيال خضر عدنان كمرور أيام جوعه السادسة والثمانين، على المستويين الشعبي والميداني، يكمل إيقاع المحتل الإسرائيلي باتجاه تحقيق أهدافه كاملة، ليفتح اغتيال خضر أبواباً أخرى للإجرام الإسرائيلي المنظم، وهو إجرام لا تلجمه محاولات تصدير كل طرف لميدان المعركة بعيداً عن مربعه الجغرافي، إنما هي وحدة الساحات التي تعمّد مدماكها الأول بنجاح، ولكنه بات اليوم عرضة للانكسار أمام اختبار خضر عدنان الصعب، وهو اختبار يتجاوز فصيل "الجهاد الإسلامي"، على محورية دوره، لما هو القضية الفلسطينية بل معركة محور المقاومة برمته، باعتبار فلسطين قضيته المركزية.
فشل المستوى الشعبي في إنقاذ خضر عدنان خلال إضرابه، في ضوء غياب الحد الأدنى من التلاحم الجماهيري، وهو فشل يمكن للجميع أن يرجمه بحجر، وأسبابه معروفة للعامة والخاصة، ليرتقي خضر عنيداً في صبره المقدس، وهو يسبح ضد التيار بلا تردد، وهو ارتقاء نقل المعركة من المستوى الشعبي، أو يُفترض أن ينقلها إلى المستوى الميداني، من دون مراهنة على الفعل الشعبي بشكل حصريّ، رغم تطوره بعد صدمة الاستشهاد، ولكنه تطور محكوم بأداء طليعة الميدان وقدرتها على لجم الوحشية الإسرائيلية، بما يحول دون تحقيق أهداف الاغتيال.
نجاح الخطة الإسرائيلية في اغتيال خضر عدنان، سواء بمرورها من دون ثمن، أو بتحويلها إلى مجرد قضية حقوقية، أو عبر تعويمها من قبل أطراف فاعلة هنا وهناك، يعني نقلة نوعية في نجاح مشروع الوحش الصهيوني اليميني بقيادة الثنائي بن غفير وسموتريتش، وهو مشروع يتجاوز طموحات نتنياهو الشخصية، لما هو نهش عظام الأمة وقواها الحيّة بلا استثناء، وعندها سنفتقد صرخات خضر عدنان، بانتظار نهوض أبنائه التسعة.