"أرى فجراً تلونه دماهم، بلون العشق في الآفاق بان، يسابق كل كرب مع خطاهم، ومنزلتهم في أعلى مكان، هم الشهداء لا أحد سواهم يدب الشوق فيهم إلى الجنان، هم الذين تغار من سماهم ملوك الأرض في كل مكان، شموس العز حارت في هداهم وأسرت نورها لهم معينا".
ضَربٌ من الخيال أن نحاول الوصول إلى هامات أولئك الذين اختاروا الدم والشهادة عنواناً لحياتهم، فكم هو صعب الكتابة عن أولئك الذين امتشقوا الثورة والعنفوان سلاحاً؟، كيف يمكن أن نستبدل مداد الدم والبارود بمداد الحبر والكلمات؟، وكيف يمكن أن نتكلم عن أناس رسموا حياتهم بدماهم، وكانت ملامحهم دوماً شارة النصر والعزة؟، إنهم الأكرم منا جميعاً، وسادتنا ونبراس فخرنا وشموخنا.
في حضرة الشهداء.. نحبس دموعنا، ونفتح قلوبنا، ونستحضر خشوعنا؛ لنقرأ عبر قواميس الشرف في صفحات النور سيرةَ أمجادهم، ونغرف كرامةً من معينهم، ونسمع من الأطهار رواياتهم، وعظيم صنيعهم.. روايات أولئك الذين انتخبتهم السماء، واختارتهم؛ ليمتطو صهوة المجد ويكتبوا تاريخ البطولة، ويشكلوا عنواناً للنصر.
نتحدث عن الشهيد القائد الكبير خليل صلاح البهتيني، عضو المجلس العسكري وقائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الذي ارتقى شهيداً على طريق القدس مقبلاً غير مدبر، رفقة زوجته، وطفلته هاجر (7 أعوام)، إثر عملية اغتيال جبانة اقترفتها طائرات الحقد الإسرائيلية، بقصف منزله في حي الشعف بمدينة غزة، فجر الثلاثاء الموافق التاسع من شهر مايو/أيار من العام الجاري.
ميـــــلاد الخليـــــل
في يوم من أيام الله المباركة، حيث كانت الشمس تلقى خيوطها مبشرةً ببزوغ نهار جديد، كانت مهد الأنبياء، وبوابة الأرض إلى السماء، فلسطين الجميلة، على موعد لاستقبال القائد خليل صلاح البهتيني، الذي تنسم عبيرها وهواءها المحمَّل بالكرامة، وأبصر نور عزتها، في الخاتم من شهر نوفمبر للعام 1978م، في حي الزيتون بمدينة غزة، فعاش وترعرع في أحضان أسرته الفلسطينية المؤمنة التقيَّة، التي ربَّته على حسن الأخلاق والأدب وحب الجهاد والفداء، وَعِشْقِ فلسطين ومسجدها الأقصى المبارك والانتماء إليها، وقدمت ابنها محمد شهيداً على مذبح الحرية والكرامة بتاريخ السادس والعشرين من شهر يوليو للعام 2006م، إذ قصفته طائرات الاحتلال أثناء تصديه لعمليات التوغل الإسرائيلية البربرية لقطاع غزة.
"صادق الأقوال، رجل الأفعال، وفي الوعد، طيب القلب، مبتسم الثغر، حسن المعشر، تقي الفؤاد، جميل المنظر، فذ العقل، سديد الرأي، مستنير الروح، بشوش الوجه، هادئ الطباع، يُحب في الله، ويرضى في الله، ويغضب لمحارم الله، وقوراً، ناصحاً، أميناً، متواضعاً، حكيماً، باراً بوالديه، يوقر الكبير ويعطف على الصغير، حيِّيَّاً، كريماً، جواداً، قليل الزلل، كثير العمل، حليماً، عفيفاً، يساعد من حوله بلا كلل ولا ملل.."، هذه بعض من الصفات الحميدة التي أسعفتنا بها قلوبنا لوصف الشهيد القائد خليل البهتيني، فحين نصف البعض تغيب الكلمات، الشهداء أكبر من الوصف!، باختصار.. لقد كان شهيدنا "قرآناً يمشي على الأرض".
درس شهيدنا القائد مراحل تعليمه المختلفة في مدارس مدينة غزة، وكان طالباً نجيباً، ومجتهداً، ومتفوقاً، يساعد زملاءه وينصح لهم، ويتميز بمهارته العالية على الفهم والتحليل والحفظ بكل سهولة، كما تميز بحبه الكبير للقراءة والثقافة، وأنهى الثانوية العامة باجتهاد؛ ليلتحق بعدها بالجامعة ويتخرج من كلية الشريعة والقانون بتقدير مرتفع.
تزوج شهيدنا القائد بزوجته المجاهدة ليلى مجدي مصطفي البهتيني، فكانت مثالاً للمرأة المسلمة الملتزمة، الملتزمة بتعاليم الإسلام العظيم، والمُحَافظة على أسرار بيتها، ورزقه الله منها بنجله البِكر "هادي" وعدد من الأبناء والبنات، الذين رباهم على القيم الحسنة، والأخلاق الفاضلة، فكان نِعم الأب الحنون على أبنائه، ولا يبخل عليهم بشيء.
وشارك في تأسيس شركة رؤى للإنتاج الفني، رفقة الفقيد المجاهد وائل البيطار، وله بصمات دامغة في إنتاجات فنية متنوعة، كما شارك في تأسيس فرقة عشاق الشهادة للفن الإسلامي الهادف، وكان عضواً فيها، يتمتع بصوتٍ حسن وجميل، إذ كان يوصف بأنه "كروان فلسطين"، وصوتها الجهادي.
تاريـــخ حافــــل بالجهـــــاد
على ألحان الشوق يمضي الرجال الأكرمون.. حملوا الأمانة، وأدوها بكل إخلاص وتفانٍ، وأظهروا بسالةً وإتقاناً في عملهم، تجدهم في ميادين الجهاد دوماً، لا يخافون في الله لومة لائم، يقفون في وجه الظلم سداً منيعاً، وهبوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى، فربح بيعهم، وفازوا الفوز الأكيد والكبير -بإذن الله-.
انتمى شهيدنا القائد أبو هادي إلى صفوف حركة الجهاد الإسلامي، منذ ريعان شبابه، في تسعينيات القرن الماضي، وكان عضواً فاعلاً ومشاركاً في أنشطتها وفعالياتها كافة، وداعياً إلى الانتماء إليها والسير على خطى شهدائها الأطهار، وكان يشارك في المسيرات الجماهيرية المناهضة الاحتلال والداعمة للمقاومة، إذ كان يرشق جيبات العدو الإسرائيلي بالحجارة والزجاجات الحارقة، فتعرض للاعتقال أكثر من مرة.
ولشجاعته وإقدامه ورجاحة عقله، التحق بصفوف سرايا القدس، ومضى يشاغل العدو الإسرائيلي، فأصبح قائداً لإحدى التشكيلات العسكرية للسرايا، كما كانت له بصمة دامغة في مجال التصنيع العسكري، وشارك في الانتفاضة الفلسطينية الثانية؛ رداً على اقتحام رئيس وزراء الاحتلال آنذاك أريل شارون للمسجد الأقصى المبارك، وسجل بسالةً منقطعة النظير في الذود عن حمى الوطن ومقدساته.
تدرج شهيدنا القائد أبو هادي في العمل العسكري لسرايا القدس، ونظراً لكفاءته وشجاعته وإقدامه أصبح عضواً في المجلس العسكري للسرايا، فأسس جهاز أمن السرايا الذي كان له دور كبير في إدارة صراع الأدمغة مع العدو الإسرائيلي، وحماية ظهر مجاهدي السرايا.
ثم قاد الوحدة الدعوية للحركة، ورسَّخ المفاهيم الدينية والتعبئة الجهادية في نفوس المجاهدين، فقد آمن أن صراعنا مع العدو هو صراع على العقيدة، وأن بناء المجاهد المسلم هو أعظم استثمار وأفضل بناء.
وبعد استشهاد القائد صلاح أبو حسنين، في معركة السماء الزرقاء عام 2014م، كُلِّف بقيادة وحدة الإعلام الحربي للسرايا، فعمل على تطويرها ووضع حجر أساسها، وعزَّز الخطاب الإعلامي المقاوم؛ لرفع الروح المعنوية لدى أبناء الشعب الفلسطيني، وبث مشاهد الفخار التي تثلج الصدور من ميادين الإعداد والنزال، وكان له الدور الأول في تطوير ملف الناطق العسكري للسرايا أبو حمزة، الذي أضحى رمزاً وطنياً ومصدراً موثوقاً لأخبار المقاومة؛ ليشكل الإعلام الحربي أيقونة كبيرة ومثالاً حياً للنجاح الاستراتيجي للإعلام الفلسطيني المقاوم، كما كان له بصمات في تطوير عدة تخصصات عسكرية؛ لذلك تعرض لعدة محاولات اغتيال، وأصيب في بعضها.
ولإيمانه الشديد بأهمية محاربة رواية الاحتلال الإسرائيلي وماكينته الإعلامية الموجهة، وبث الرواية الفلسطينية وبيان مظلومية الشعب الفلسطيني، أسس قناة القدس اليوم الفضائية في العام 2018م، وأشرف على إنتاجاتها وإدارتها حتى لحظة استشهاده، فانطلقت بصفتها قناة إعلامية تؤمن بخيار المقاومة والجهاد، وتحمل شعارَ "القدس ميراث السماء".
وكان لشهيدنا القائد أبو هادي قصب السبق في تطوير الدراما الفلسطينية، وتطويرها، والرقي بها، فأسس شركة ميدل تاون للخدمات الإعلامية، والتي أنتجت بدورها عدةَ مسلسلات درامية، منها: ميلاد الفجر 1، وشارة نصر جلبوع، وميلاد الفجر 2 "انتفاضة"، والتي لاقت استحساناً كبيراً من النُّقاد والمختصين، ومشاهدة عالية من جمهور المقاومة.
وفي العام 2022م، كُلِّف شهيدنا القائد أبو هادي بمسؤولية المنطقة الشمالية لسرايا القدس، خلفاً للشهيد القائد تيسير الجعبري "أبو محمود"، الذي ارتقى إثر عملية اغتيال جبانة نفذتها طائرات الحقد الإسرائيلية بقصفها الشقة التي كان يتواجد بها، بتاريخ الخامس من شهر أغسطس من العام 2022م، لتندلع على إثرها معركة وحدة الساحات البطولية، التي أرسى قواعدها الصلبة الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي القائد زياد النخالة، وعبَّقها بدماء الشهداء الأطهار.
ومَثَّل القائد البهتيني سرايا القدس في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة في قطاع غزة، واتهمه الاحتلال بالوقوف وراء سلسلة من عمليات إطلاق الرشقات الصاروخية والقذائف تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 والمستوطنات المحاذية لقطاع غزة، خاصة التي أعقبت ارتقاء مفجر معركة الأمعاء الخاوية القيادي الشيخ الشهيد خضر عدنان في سجون الاحتلال، في الثاني من شهر مايو للعام 2023م؛ بعد إضراب عن الطعام استمر ستة وثمانين يوماً.
خليــل الشهــــداء ورفيـقهم
لا تغيب صور الأبطال عن قاموسنا، يدفعهم الواجب المقدس نحو صناعة المجد، تميزت فيهم البطولة والفداء، وترسمت بخيالهم الشهادة، فابتسموا ابتسامتهم اللطيفة ومضوا نحو جنات العلا.
تأثر شهيدنا القائد أبو هادي، برفيقه الشهيد شادي الكحلوت الذي قد قضى نحبه، وهو يؤدي واجب الجهاد والمقاومة، وهو يحمل عبوة ناسفة تزن «15 كيلو جرام T.N.T» شرق مدينة غزة «معبر كيسوفيم»، بتاريخ الرابع من شهر فبراير للعام 2001م؛ فرثاه بالأنشودة الأحب إلى قلب الشهيد الكحلوت، والتي أنشدها بصوته قبل استشهاده، ومطلعها: "حارت فيك العقول، شهدت فيك العدول، يا حبيب قلوب مجاهدينا"، وهي ثاني شريط مصور لفرقة عشاق الشهادة.
وكان القائد أبو هادي رفيقاً وملازماً للقادة الكبار، الشهيد القائد الكبير بهاء أبو العطا "أبو سليم"، والشهيد القائد الكبير تيسير الجعبري "أبو محمود"، والشهيد القائد الكبير خالد منصور "أبو الراغب"، والشهيد القائد الكبير إياد الحسني "أبو أنس"، وغيرهم من القادة الأطهار الذي جادوا بدمائهم؛ ليرسموا خارطة الطريق، ويعبِّقوا بها ثرى الأرض المباركة.
كلمــــات مـــن نـــــور
"فاهنأ أبا هادي فطيفُك حاضر، وظلالُ وجهك أشرقت فرسانا، حطَّت على رأس العدو ورددت: هذا أبو هادي بنى البنيان".
أُعطِي شهيدنا القائد أبو هادي مجامع الكلم، وفتح الله عليه بالثقافة الواسعة، وفصاحة البيان وطلاقة اللسان، ومن أشهر أقواله الجهادية:
- "ما تربينا عليه وما نحمله من ثقافة، أن من يسكن على هذه الأرض ولم ينل الشهادة فقد خسر".
- "إن الله سبحانه أكرمنا بالرباط والجهاد على هذه الأرض، ولا وظيفة لنا ولا دور في هذه الأرض المباركة إلا بالجهاد".
-"لنا الفخر كل الفخر أن نعادي (إسرائيل) هذا الكيان الغاصب، وأن نربي أبناءنا على كره هذا الكيان، ولنا الشرف أن نبقى وفي أيامنا، وجهدنا، وهمومنا، قصف كل مدن هذا الكيان، ونسجل للتاريخ أن مقاومي فلسطين ومقاومي غزة كانوا كالشوكة في حلق هذا الكيان، ولم يساوموا ولم يفرطوا في ذرة تراب من هذه الأرض المباركة".
- "نحن نورث أبناءنا أن كل هذا الكيان مستباح لدى سرايا القدس والمقاومة الفلسطينية".
- "نقاتل تحت راية لا إله إلا الله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى".
يهيمُ الكبرياء بقصص الفداء، حيث لا مجال للخيال، وإنما هي القصص الحقيقية لمن يصطفي رب الأرض والسماء، هم الشهداء ملح الأرض وأقمار السماء.. تباركنا أرواحهم، وتنعش أرواحنا وتقوينا على الجهاد، فبالجهاد عزنا وبالقتال عزنا وبالاستشهاد عزنا، أما الاستسلام فهو طريق الذل والهوان.
ارتقــــاء الخليـــــل
نم في سلام يا خليل فلم تذر ** جند السرايا للعدو أمانا
فالله بايعنا بألا نستقر ** إلا وثأرك قائدي قد حانا
أخليل بهتيني سبقت زماننا ** وصنعت تاريخاً وعزاً بانا
إنا هنا دوماً خليل باسمكم ** سنكون رعباً يملأ الأركانا
فجر الثلاثاء، الموافق التاسع من مايو 2023م، شنت طائرات الاحتلال الإسرائيلي عدواناً بربرياً على قطاع غزة، استهدف قادة المجلس العسكرية لسرايا القدس، أسفر عن استشهاد الشهيد القائد الكبير/ خليل البهتيني – عضو المجلس العسكري وقائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس، وزوجته المجاهدة "ليلى البهتيني" وابنته الطفلة "هاجر"، والشهيد القائد الكبير/ جهاد شاكر الغنام - أمين سر المجلس العسكري في سرايا القدس، والشهيد القائد الكبير/ طارق عز الدين – أحد قادة العمل العسكري لسرايا القدس في الضفة المحتلة، ومعهم كوكبة طاهرة من زوجاتهم وأبنائهم وأبناء الشعب الفلسطيني.
وإثر ذلك، أعلنت سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، انطلاق معركة "ثأر الأحرار" البطولية، التي استمرت 5 أيام متتالية؛ صداً للعدوان الإسرائيلي الغاشم، ورداً على اغتيال القادة الأطهار.
وخلال المعركة، ارتقى أكثر من 33 شهيداً بصواريخ طائرات الحقد الإسرائيلية، منهم: الشهيد القائد الكبير/ علي غالي "أبو محمد" – عضو المجلس العسكري ومسؤول الوحدة الصاروخية لسرايا القدس، والشهيد القائد الكبير/ إياد الحسني "أبو أنس" – عضو المجلس العسكري ومسؤول وحدة العمليات لسرايا القدس، والشهيد القائد الكبير/ أحمد أبو دقة "أبو محمد" – نائب عضو المجلس العسكري ومسؤول الوحدة الصاروخية خلفاً للقائد غالي، وثلة من المجاهدين الأطهار.
وزفت السرايا، بكل آيات الجهاد والانتصار، القائد البهتيني وثلة مكونة من أحد عشر قمراً من قادتها ومجاهديها الميامين، ارتقوا في معركة "ثأر الأحرار" البطولية، خلال عمليات اغتيال واستهدافات نفذها العدو الغادر؛ ليرحلوا بعد مسيرة جهادية عظيمة وبصمات دامغة في مشروع المقاومة والتحرير.
وأكدت السرايا أن "ارتقاء الشهداء الأبرار، جاء ليؤكد على حضور معادلة الواجب فوق الإمكان في الفعل والوعي الثوري لدى أبطالنا الذين أدوا واجبهم الجهادي خلال معركة "ثأر الأحرار"، التي جاءت إيماناً بوجوب رد الصاع صاعين للعدو، الذي بدأ غدره باغتيال قادة سرايا القدس غيلة؛ ظناً منه أنه بالاغتيالات يستطيع كسر شوكة المقاومة التي ستبقى مستمرة بعبق دماء الشهداء الأطهار، الذين ننعاهم بكل فخر واعتزاز".