يبدو أنّ “إسرائيل” استغلت الانقسام والصخب السياسي في الداخل اللبناني والانشغال بملف انتخابات رئاسة الجمهورية واتجهت للخروج من واقع فرض عليها منذ العام 2000 تاريخ اندحارها من الجنوب اللبناني بضغط المقاومة والجيش والشعب اللبناني. اتجهت كما يبدو إلى فرض واقع جديد مستفيدة من تقاعس الأمم المتحدة لا بل ممالأة هذه المنظمة لها والاستنكاف عن الضغط عليها لتخرج من الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم اللبناني من قرية الغجر.
لقد أرادت “إسرائيل” الانقلاب علي القواعد التي تمّ اعتمادها لضبط السلوك في تلك المنطقة التي أثارت حولها الأمم المتحدة شكوكاً بلبنانيتها ثم عندما ووجِهت بالأدلة القطعية التي تثبت هويتها اللبنانية ارتدّت الى حجج واهية من قبيل القول بانتفاء الصلاحية العملانية لليونيفيل في المنطقة. وهنا وفي معرض البحث في المسألة نرى إعادة التذكير بما جرى في العام 2000 في مسألة الحدود ورسمها والتحقق من الانسحاب الإسرائيلي الى خارج هذه الحدود بمقتضى القرار ٤٢٥ الذي ينص صراحة على انسحاب “إسرائيل” من كافة الأراضي اللبناني دون قيد أو شرط.
ففي أيار من العام 2000 ولما عجزت “إسرائيل” عن متابعة تحمّل الثمن الباهظ لاحتلالها الجنوب اللبناني بسبب عمليات المقاومة، قرّرت الانسحاب من الجنوب، ولكي تخفي هزيمتها ادّعت بأنّ هذا الانسحاب يجري تنفيذاً للقرار 425 الصادر عن الأمم المتحدة في آذار1978 (أيّ استفاقت على تنفيذه بعد ٢٢ عاماً) وكان لا بدّ من أن يقوم لبنان بالتحقق من اكتمال الانسحاب، وكان لا بدّ من دور للأمم المتحدة في هذا الشأن.
ومن أجل التحقق من اكتمال الانسحاب، عيّن لبنان لجنة عسكرية برئاستي وكلفت بالعمل مع لجنة أممية عسكرية تقنية لتنفيذ المهمة، وكان علينا أن نبدأ بتأكيد خط الحدود الدولية الذي سيكون الانسحاب بالاستناد اليه، وبالفعل عملنا مع فريق الأمم المتحدة هذا ورفضنا أيّ عمل او اجتماع او لقاء مع لجنة العدو الإسرائيلي المقابلة، واتفقنا مع الأمم المتحدة على إنشاء مجموعتي عمل منفصلتين أولى لبنانية ـ أممية وثانية إسرائيلية ـ أممية وتتولى الأمم المتحدة مهمة الاتصال دون لقاء المجموعتين.
وعند بدء العمل قدّمنا للأمم المتحدة برنامجاً تنفيذياً يقوم على مراحل ثلاث تبدأ الأولى بتأكيد خط الحدود على الخرائط وتكون الثانية بتأكيد هذا الخط على الأرض وتنتهي الثالثة بالتحقق من انتفاء الاحتلال الإسرائيلي داخل الحدود اللبنانية. والحدود التي نعنيها هي قسمان: القسم الأول هو حدود لبنان مع فلسطين المحتلة وتمتدّ من الناقورة الى الوزاني والغجر، والثاني حدود لبنان مع سورية وتمتدّ من الغجر إلى قمة حرمون، ولكلّ من هذين القسمين مستند ومرجعية ووثائق تثبته، حيث إنّ القسم الأول معتمد بموجب اتفاقية “بوليه نيوكمب” 1923 التي رسمت بشكل نهائيّ الحدود بين لبنان وفلسطين، والقسم الثاني محدّد بقرار إنشاء لبنان عام 1920 وبعده أعمال لجنة غزاوي وخطيب للعام 1946 التي تجعل حدود لبنان في تلك المنطقة تمرّ من شمال مغر شبعا الى قمة حرمون مروراً بوادي العسل.
وبصيغة أخرى لم تكن مهمة اللجان العسكرية التي شكلت في العام 2000 ترسيم حدود لبنان البرية في الجنوب والشرق لأنّ هذه الحدود مرسّمة ونهائية ولا يصحّ القول بإعادة الترسيم البري للحدود، بل كانت المهمة محصورة بالتأكيد على هذه الحدود والتحقق من خروج “إسرائيل” بقواتها العسكرية منها.
بيد أنّ الأمم المتحدة وبذرائع لا يقبلها منطق او عقل ادّعت أنّ العوامل الجغرافية طمست العلامات الحدودية على الأرض وانّ خرائط الحدود الدولية فيها بعض الشوائب التي تحتاج الى توضيح وأقدمت تحت هذا المنطق الواهي على وضع مشروع خريطة للحدود ادّعت انه الأقرب الى حقيقة الحدود الدولية. وعند فحص المشروع الأممي هذا تبيّن لنا ان الأمم المتحدة عن قصد أو غير قصد ابتعدت عن الحدود الدولية التي نتمسّك بها ولدينا خرائطها وإحداثياتها، ابتعدت عنها في 13 منطقة على القسم من الحدود مع فلسطين المحتلة وكامل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا على القسم السوري من الحدود، واقتطعت أرضاً لبنانية ووضعتها في فلسطين المحتلة أو الجولان السوري المحتلّ فرفضنا المشروع الأممي ودعوْنا الأمم المتحدة الى مراجعة طرحها وقدّمنا لها الخرائط والوثائق التي تؤكد على تمسكنا بحدودنا الدولية.
بعد نقاش مستفيض في اجتماع مشترك لبناني أممي عُقد برئاسة العماد إميل لحود رئيس الجمهورية تراجعت الأمم المتحدة عن مشروعها وأقرّت بموقفنا حيال 10 مناطق على القسم الفلسطيني من الحدود وتمسّكت بخطها في المناطق الثلاث الأخرى إضافة الى كامل مزارع شبعا في القسم السوري من الحدود، حيث ادّعى لارسون رئيس الفريق الأممي بأنّ الصلاحية العملانية في تلك المنطقة هي للاندوف وليست لليونيفيل طبعاً حجة واهية غايتها إبقاء الاحتلال.
وتوقف النقاش عند هذا الحدّ، وكادت مهمة التحقق ان تتوقف إلا أنّ اقتراحاً طرح في نهاية الاجتماع مضمونه القول بأنّ خط الأمم المتحدة ليس حدوداً ولا يمسّ حقوق لبنان بحدوده الدولية وأنّ وظيفته لا تتعدّى مسألة التحقق من الانسحاب لذلك لا يرسم على الأرض بل ترسم الحدود الدولية، أما في مناطق الخلاف الثلاث مع مزارع شبعا فلا يرسم الخط ولا يغيّر فيها واقع الحال. وبموجب هذا التفاهم مع الأمم المتحدة رفضنا رسم الجزء من الخط بين العديسة ومسكافعام لأننا لو قبلنا بطرح الأمم المتحدة لكنا اقتطعنا أرضاً لبنانية محررة وقدمناها للعدو، والأمر ذاته حصل في مزرع شبعا وتلال كفرشوبا، وقد قبل الجميع بهذا الحلّ.
إذن لم يرسم خط أزرق في منطقة مزارع شبعا لأننا نتمسك بخط الحدود الدولية الذي يمرّ في وادي العسل، والتزمت الأمم المتحدة بمراقبة الوضع في المنطقة ومنع أيّ عبث ميداني او جغرافي بها او عملاني يطال المراكز القائمة فيها وهي ٣ مراكز (السماقة ـ رويسات العلم ـ حرمون) واستمرت مساحات واسعة شرقي الخط الأممي الأزرق بيد السكان يستغلونها وجرت أكثر من محاولة لرسم خط أزرق هناك ورفضنا وقلنا دائماً لا نرسم خطاً وهمياً يقتطع من أرضنا والخط المقبول منا هو خط الحدود الدولية. في كلا القسمين من الحدود.
التزمت “إسرائيل” بمضمون هذا التفاهم مع الأمم المتحدة طيلة الـ 23 عاماً الماضية، لكنها فجأة ومستغلة الوضع الداخلي اللبناني عمدت الى محاولة الخروج على هذا التفاهم وفرض أمر واقع جديد تتقدّم فيه داخل الأرض اللبنانية قضماً وضماً وتجري تحصينات عسكرية ميدانية بعيدة عن مراكزها الثلاثة القائمة ما استوجب ردة فعل مشكورة قام بها الأهالي والجيش اللبناني لمنعها من تحقيق أهدافها باستراتيجية جسّ النبض هذه.
وفي الخلاصة نقول إنّ على الأمم المتحدة التي قصّرت وتقاعست عن القيام بما كُلفت به بموجب القرار 1701 لبلورة حلّ لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والغجر، عليها أن تتصرف بحزم وتمنع “إسرائيل” من العبث بجغرافية المنطقة المتحفظ على الخط الأزرق فيها، خلافاً لتفاهم 2000، وفي المقابل على لبنان ان يقوم بكلّ الإجراءات السياسية والدبلوماسية والميدانية بما فيها حق المقاومة بالدفاع عن الأرض بكل الوسائل المتاحة.
والسؤال الذي يبقى يبحث عن إجابة الآن هل التحرش الإسرائيلي في تلال كفرشوبا مناورة ميدانية مقيّدة بسقف تحت السيطرة ام هي مغامرة تشكل مقدّمة لمواجهة واسعة على الجبهة الشمالية؟ وجوابنا هو ميلنا للتفسير الأول والقول بأنّ “إسرائيل” رغم التحرّش المذكور ليست في وضع الذهاب الى حرب سواء في ذلك الجبهة الشمالية أم جبهة العمق في إيران لأكثر من عامل واعتبار يمكن بحثها لاحقاً…
*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي