انتفض قُصي من غرفته لتلبية استغاثة أصدقائه التي تردد صداها على مسامع الشباب "هجم المستوطنون على القرية!"، وأثناء نزول قصي عن "سُلم البيت" التقت عيناه بعيني شقيقته التي توسلت إليه بأن يكون حذرًا خشية من تعرضه للخطر في ظل السماح للمستوطنين بحمل أنواع مختلفة من الأسلحة النارية.
بيديه الرقيقتين أمسك الشاب قُصي معطان (18 عامًا) رأس شقيقته وطبع قُبلة على جبينها قبل أن يترك للسانه مساحة للحديث عن ظلم المستوطنين وقدر الله تعالى، "ما بصير إلا ما كتبه الله، المستوطنون اعتدوا علينا وبدنا ندافع عن أرواحنا، ومالنا، وممتلكاتنا، ونسائنا بما نملك من حجارة وأدوات دفاعية".
"يا شباب القرية المستوطنين حرقوا سيارتين وبيضربوا الناس"، في تلك اللحظة ركض قُصي خارج البيت رافعًا يديه إلى شقيقته التي استشعرت الخطر، فلم تمنح لسانها وقتًا؛ إلا للدعاء لشقيقها وأن يحميه الله تعالى من بطش المستوطنين وإرهابهم.
اغتسل واستعد للشهادة
استعادت شقيقة قصي شريط ذكريات الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة الموافق (4 أغسطس 2023) فعندما وصل مؤشر عقرب الساعة إلى التاسعة كان صوت قصي يدوي في المنزل ليدفعنا إلى الاستيقاظ: "اليوم يوم مقدس بدنا نفطر مع بعض".
أعدَّ قصي برفقة شقيقته سفرة الطعام التي تخللها نوع من الابتسامات والمزاح، إذ أن الأسرة كانت تنوي تجهيز شقة سكنية لقصي خلال الشهور القادمة، "بكرة تفطر مع زوجتك وتتركنا"، في تلك اللحظة انطلقت الضحكات بين الأشقاء.
عندما انتهى قُصي من الإفطار ذهب كعادته في صباح يوم الجمعة إلى محل الحلاقة، فقد كان متمسكًا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم "بترتيب الشكل والاغتسال والذهاب باكرًا إلى صلاة الجمعة".
عند عودته من أداء صلاة الجمعة كانت والدته وأشقاؤه قد أعدوا طعام الغداء، وبعد تناول الغداء صعد قُصي إلى غرفته يقلب هاتفه المحمول، في تلك اللحظة تداول أبناء قرية برقة قضاء رام الله خبر يفيد باقتحام المستوطنين لأطراف القرية.
فورًا بدون تفكير، انتفض قصي من فراشه، مودعًا شقيقته ثم ركض مع أصدقائه صوب منطقة الحدب الوعرة لمواجهة مجموعات من المستوطنين المتطرفين؛ لتقول شقيقته: "غادر البيت ولم يعد إلا محمولًا على الأكتاف".
ثلاث رصاصات من مسافة صفر
كان العرق يتصبب من جبينه، وحدقات العينين تتسعان من شدة الغضب، مستوطنون يعتدون على مركبات المواطنين ويحرقونها دون رأفة أو رحمة، أما جنود جيش الاحتلال يراقبون الأحداث عن بعد 100 متر فقط.
وفي مشهد كالبرق وصل قُصي وأصدقاؤه لمسافة قصيرة جدًا من المستوطنين في منطقة الحدب ليتصدوا بالحجارة، قبل أن يقترب أحد المستوطنين مشهرًا مسدسه المليء برصاص القتل والغدر في وجه الشباب المدافعين عن أرضهم وعرضهم وممتلكاتهم.
ما هي إلا ثوانٍ قليلة حتى ضغط المستوطن على الزناد؛ لتخرج رصاصة قاتلة من مسافة صفر وتستقر في الجهة الشمالية من رقبة قُصي، ثم يباغته برصاصة أخرى في كتفه ورصاصة ثالثة في ظهره، امتلأ المكان بالدماء، وثار غضب أصدقاء قصي الذين رشقوا المستوطنين بالحجارة دون توقف.
تراجع المستوطنون قليلًا عندما أمطرهم الشباب الثائر بالحجارة؛ ليتمكن صديق قصي من نقله بسيارته إلى سيارة الإسعاف التي كانت تنتظر في المناطق المستوية من منطقة الحدب، ما زال قلب قصي ينبض، فورًا أُجرى له الإسعافات الأولية، وأدار ضابط الإسعاف عجلات مركبته مسرعًا صوب مجمع فلسطين الطبي.
هناك في مجمع فلسطين الطبي كما يروي هادي معطان خال الشهيد قصي لـ "شمس نيوز"، صعدت روح قُصي إلى السماء لتصيب عائلته وأسرته بألم وفقدان كبير: "قُصي كان إنسانًا مسالمًا ومحبًا جدًا للحياة، لم يؤذِ أحدًا مطلقًا؛ لكن أفعال المستوطنين دفعته كغيره من الشباب الثائر للتصدي لهم والدفاع عن أبناء شعبنا".
رصاصات المستوطنين القاتلة التي خطفت روح قُصي حرمته من أجمل ما يحب في هذه الحياة وهي ركوب الخيل يقول خاله: "منذ صغره وهو يحب ركوب الخيل فهي تمنحه القوة والإرادة والعزيمة على مواصلة الطريق حتى النهاية".