بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
تعهد اليميني المتطرف إيتمار بن غفير منذ اليوم الأول الذي استلم فيه وزارة الأمن الوطني الإسرائيلية، أن يضيق على الأسرى الفلسطينيين، وأن يتشدد في التعامل معهم، وأن يسحب الامتيازات منهم، ويحرمهم أبسط حقوقهم الإنسانية، ويصادر ممتلكاتهم وحاجاتهم الشخصية، وأن يشتتهم ويرهقهم بعمليات النقل المفاجئة، وحملات القمع والتفتيش القاسية، وأن يتم اعتماد عقوبة العزل الانفرادي بصورة دائمة، وألا يتساهل معهم في زيارة الأهل ومقابلة المحامين، وأن يقلص الخدمات التي يحصلون عليها من "كانتينة" السجن، وأن يفرض عليهم عقوباتٍ مالية تستنزف مدخراتهم التي يستخدمونها في شراء ما يلزمهم من "الكانتينة".
وكان بن غفير قد قام في أول يومِ عملٍ له بزيارة سجن نفحة الصحراوي، وهو المعتقل الأقسى بين السجون الإسرائيلية، ليطمئن إلى التزام إدارة السجون بتنفيذ تعاليمه، والتقيد بالضوابط الجديدة التي وضعها لهم، وألا تكون هناك أي تجاوزاتٍ من شأنها التخفيف عن الأسرى، وقد بدا وكأنه قد جاء للانتقام من الأسرى والتنكيل بهم، وهو الذي كان يسعى عندما كان نائباً في المعارضة لتشريع قانون يجيز إعدام الأسرى الفلسطينيين، وكان ولا يزال يصر على حرمان الأسرى من أي رعاية صحية أو توفير أدوية لهم، أو إجراء عملياتٍ جراحية لإنقاذ حياتهم.
إلا أن الأسرى الفلسطينيين في مختلف السجون الإسرائيلية الذين أدركوا سياسة الحكومة اليمينية الإسرائيلي، ولمسوا نوايا وزير الأمن الوطني، وشعروا بأنه يحاول أن يحرمهم كل ما تمكنوا من الحصول عليه بصبرهم وثباتهم ونضالهم وتضحياتهم وإضراباتهم المستمرة، قد قرروا مواجهته والتصدي له، وعدم الخضوع لشروطه والقبول بسياسته، والوقوف في وجهه وإحباط محاولاته، فالسكوت على إجراءاته القمعية وممارساته العنصرية سيغريه نحو المزيد والأسوأ منها، والصمت عليه جريمة في حق أفواج الأسرى الذين يزداد عددهم يوماً بعد آخر، ضمن سياسة سلطات الاحتلال الماضية قدماً في اعتقال عشرات المواطنين الفلسطينيين بصورةٍ يومية.
ليس لدى الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين الذين وطنوا أنفسهم على الشهادة، شيئاً يخسرونه في معركتهم ضد سلطات السجون الإسرائيلية، وضد وزير أمنهم الوطني الغٍر الأهوج، الذي ظن أنه يستطيع أن يركعهم وأن يضعف روحهم المعنوية، وأن ينال من صمودهم وثباتهم، وأن يحد بسياسته الرعناء التي ظن أنها جديدة، رغم أن كل من سبقه قد لجأ إليها واستخدمها واعتاد عليها، من عمليات المقاومة خوفاً مما قد يلقونه من عذابٍ وهوانٍ في السجون، إلا أن هذه السياسات لم تؤت الثمار المرجوة منها، ولم تحقق الأهداف التي تطلعوا إليها، فلا الأسرى خضعوا واستكانوا، ورضوا بحياة الذل والهوان، ولا المقاومة توقفت ولا العمليات تراجعت، بل استمر الفلسطينيون في مقاومتهم، ومضى الأسرى في صمودهم.
يؤمن الأسرى والمعتقلون دائماً أن عندهم ما يكسبونه، وينتظرهم المزيد بنضالهم ليحققوه، فهم لن يقبلوا بحياة الذل والهوان، ولن يمكنوا العدو من رقابهم، ولن يخضعوا لسياساته، ولن يهابوا تهديداته، ولن يفرطوا في مكتسباتهم، ولن يتنازلوا عن حقوقهم، فإما حياةً عزيزةً يصنعونها، أو شهادةً شريفةً ينالونها، وهم إلى الخيارين أقرب وعن هدف العدو اللعين أبعد، والإضرابات التي خاضوها والامتيازات التي حققوها تؤكد للاحتلال وغيره أنهم لا يقيمون على الضيم، ولا يرضون الذل، ولا يخضعون للقيد، ولا يجبنون على المواجهة.
وقد علمت سلطات السجون يقيناً وخبرت طويلاً أن إرادة الأسرى أصلب، وأن عزيمتهم أقوى، وأن صبرهم على المواجهة أكبر، وأنهم لا يترددون في خوض إضرابٍ عن الطعام ولو كان طويلاً ومجهداً، ولو أدى إلى استشهاد بعضهم وتردي صحة كثيرٍ منهم، إلا أن يحققوا أهدافهم، ويجبروا سلطات السجون على التراجع عن استفزازاتهم، والتوقف عن محاولات إذلالهم وإهانتهم، والكف عن التضييق عليهم والتشدد في التعامل معهم.
لكن الأسرى والمعتقلين لا يستطيعون مواجهة سلطات الاحتلال وحدهم، فصوتهم مهما كان عالياً فإنه دون أهلهم لا يصل، ومعاناتهم مهما بلغت فإن أحداً لن يعلم بها ما لم يقف شعبهم معهم، يساندهم ويؤيدهم، ويسلط الأضواء على قضيتهم، ويشرح للعالم كله معاناتهم، فهم الذين ضحوا بزهرة أعمارهم نيابة عن شعبهم ومن أجل وطنهم، يستحقون من شعبهم كل رعايةٍ واهتمامٍ، ويلزم لتبقى قضيتهم حاضرة، ولتشكل عبئاً على الاحتلال ثقيلاً، أن ينظم الفلسطينيون في الوطن وحيث ينتشرون، والعرب والمسلمون والأحرار المؤيدون لهم ولعدالة قضيتهم، مظاهراتٍ واعتصاماتٍ، وأن يقوموا بأنشطة وفعاليات مختلفة تسلط الضوء على قضيتهم، وتلفت أنظار العالم إليهم، وتدفع المؤسسات الدولية لتحريك قضيتهم والدفاع عنهم.
حياة الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية في ظل أفضل الامتيازات وأحسن الشروط لا تطاق ولا تحتمل، فهي حياةٌ قاسية ومريرةٌ جداً، لا يقوى على احتمالها إلا أصحاب المبادئ والمثل، والمؤمنون بقضاياهم والمضحون بحياتهم من أجل شعوبهم ومستقبل أجيالهم، ولولا الإيمان في قلوبهم، والعقيدة التي تحفظهم، والوطن الذي يجمعهم، والأمل الذي يتطلعون إليه، ما كانوا ليصبروا على الأذى الذي يتعرضون له، والعذاب الذي يقاسون ألوانه وصنوفه على أيدي جلاوزة الاحتلال وإدارات السجون القمعية، وها هم بصبرهم وإصرارهم، ووحدتهم واتفاقهم، يحققون نصراً ويستعيدون حقاً، ويرغمون بن غفير غصباً ويفرضون على حكومته تراجعاً، فألف تحيةٍ لكم أسرانا البواسل، حفظكم الله أعزةً كراماً، وأعادكم إلينا أبطالاً أحراراً.
بيروت في 19/8/2023
moustafa.leddawi@gmail.com