كان غاطسًا في بركة من دمائه التي تناثرت من مختلف أنحاء جسده كالبركان، حاول الوقوف على قدميه دون جدوى، بصعوبة تتحرك نبضات قلبه حتى عيونه الدامعتين بدأت تغلقان جفونها، وبدا عليه الإغماء لفقدانه كمية كبيرة من الدماء، وبعد لحظات قليلة استعاد وعيه على وقع صوت سيارات الإسعاف التي هرعت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح الفلسطينية.
مشهد الطفل الجريح يزن سامح الحرازين (14 عامًا) أثناء سقوطه في بركة الدماء كان مؤلمًا جدًا، إذ أن قوة الانفجار دفعته بقوة للاصطدام بالحجارة المتناثرة على بُعد أمتار عدة من وقوع الانفجار؛ فيما لاحقت شظايا الصاروخ الإسرائيلي الحاقد جسده الصغير الذي طار في السماء؛ فخطفت منه أغلى ما يملك، بترت قدميه وذراعه الأيمن وأصابع يده اليسرى.
قصة النزوح للجنوب غير الآمن
بدأت القصة المؤلمة للطفل الجريح يزن الحرازين عندما غادر منطقة سكناه في حي الشجاعية قسرًا بفعل التهديد والإرهاب الإسرائيلي بعد انتهاء الأسبوع الأول من حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" ضد السكان المدنيين الآمنين في بيوتهم بقطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023.
بعينه الثاقبتين نظر الطفل يزن إلى عنان السماء بعدما حجبت المناشير الإسرائيلية السُحب، أكثر من نصف ساعة من الانتظار المرتقب لسقوط تلك القصاصات الورقية إلى الأرض، أمسك بأنامله الصغيرة الورقة اللعينة فكانت الصدمة الأولى مفادها: "غادروا مدينة غزة باتجاه جنوب الوادي لأنه المكان الوحيد الآمن من القصف".
أصابت تلك القُصاصات الورقية بعض أهالي مدينة غزة بالخوف، إذ سبق إلقائها مجازر إسرائيلية بشعة بحق العائلات الآمنة في بيوتها، في تلك اللحظات قررت عائلة يزن الحرازين التوجه جنوب الوادي حيث بيت أحد أقربائهم في منطقة (مخيم 2) في النصيرات وسط قطاع غزة، باعتبارها منطقة آمنة كما زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي.
يُزيح الطفل يزن بما تبقى من أصابع يده اليسرى العرق المتصبب على جبينه، ويبتلع ريقه بصعوبة قبل أن يُكمل حديثه لمراسل "شمس نيوز": "يا ريت ما نزحنا على النصيرات كل أيامنا كانت خوف ورعب من القصف والدمار والمجازر التي ارتكبتها طائرات الاحتلال ضد الآمنين في بيوتهم".
ازدادت الحياة سوءًا لدى عائلة الطفل يزن مع نزوح آلاف المواطنين من شمال القطاع ومدينة غزة باتجاه جنوب الوادي، إذ كثرت احتياجات النازحين ومع مرور الوقت بدأت تختفي البضاعة والمنتجات الأساسية من الأسواق كـ "الطحين والغاز والمياه المعدنية".
ونظرًا للاحتياجات الأساسية اضطرت عائلة يزن؛ لطهي الطعام على موقد النار -الحطب- من اجل توفير لقمة العيش لأبنائهم الصغار في ظل استمرار حرب الإبادة التي ما زالت تشنها "إسرائيل" لليوم الـ 47 على التوالي.
لحظة الاستشهاد
يوم الأحد الماضي (19 نوفمبر 2023) كان آخر يوم يسير فيه يزن على قدميه أو يُمسك بيده اليمنى القلم ليرسم ما يدور في ذاكرته من مشاهد طبيعية خلابة فهو يحب الطبيعة وخضارها وجمالها، في الساعات الأولى من صباح يوم الأحد كانت العائلة على موعد لتجميع الحطب من طرقات وشوارع النصيرات.
"هيَّا يا يزن علينا البحث عن الخشب لأن أمك تريد أن تطهوا لنا ولجميع الأطفال الطعام"، قالها والده سامح، وهنا استجاب الطفل يزن فورًا لكلام والده وما أن خطت قدميه خارج المنزل وقع الانفجار الكبير في المنازل المجاور لعائلة يزن.
صوت السيارات وضوء فانوس الإسعاف يُبرق في عيني يزن اللتان كانتا مليئتان بالدماء أما وجهه فامتلأ بالغبار والكحول السوداء؛ لكن الصدمة القوية التي أصيب بها يزن تتمثل بعدم قدرته على تحريك جسده والوقوف على قدميه.
وصلت سيارات الإسعاف في الوقت المناسب لتنقل يزن ووالده ووالدته إلى مستشفى شهداء الأقصى لخطورة وضعهم الصحي وقبل أن يصل للمستشفى استفاق من غيبوبته داخل الإسعاف؛ ليجد قدميه وذراعه الأيمن قد بترت جميعها.
حالة يزن الصحية وبتر أطرافه لم يعرف بها والديه رغم مرور 5 أيام على الإصابة خشية أن يزداد وضعهم الصحي خطورة إذ أصيب الوالد ببتر في قدمه أم والدته أصيبت بجروح خطيرة في قدمها هي الأخرى.
حطمت طموحي وأحلامي
بتر أطراف يزن قتلت أحلامه وطموحه بممارسة لعبة كرة القدم فهو من عشاق الدائرة المستديرة إذ يقول: "أحب كرة القدم كثيرًا وكنت أرغب بالوصول إلى العالمية لإثبات قدراتي؛ لكن الآن فقدت الحياة ولم أعد قادرًا على تطبيق أحلامي كغيري من أطفال العالم".
لم تتحطم أحلام يزن عند كرة القدم فقط إنما في ممارسة التعليم فهو من الأوائل في مدرسته ويعشق الكتابة والرسومات يقول: "أتمنى من العالم أن يساندني في تركيب أطراف صناعية لذراعي الأيمن وتركيب أصابع في اليد اليسرى لإكمال حلمي في التعليم والكتابة والتخرج من المدرسة والتوجيهي والجامعة".
واستشهد أكثر من (14854) بينهم أكثر من (6150) طفلا و (4000) امرأة منذ بداية حرب الإبادة التي تشنها "إسرائيل" ضد أبناء شعبنا في قطاع غزة، فيما أصيب أكثر من 36 ألفًا منهم 75% أطفال ونساء، وفقدان نحو 7 آلاف مواطن تحت الركام بينهم أكثر من (4,700) طفلٍ وامرأة.