لم تكن السجون والمعتقلات الصهيونية يوماً إلا أمكنة للتعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانية. حتى قبل إقامة المستوطنة الصهيونية على أرض فلسطين ودعمها بالمستوطنين والمال والسلاح والسياسة والتكنولوجيا من قبل الغرب والشرق الأوروبي، ومن قبل الولايات المتحدة والدول التابعة لها، جعل المستوطن الصهيوني من معتقلاته وسجونه أمكنة لممارسة التوحشّ والتعذيب والإرهاب والإهانة، بحجة "الدفاع عن النفس". فارتكب المئات من الجرائم بحق الأسرى الفلسطينيين والعرب والأجانب المؤيدين لفلسطين، ومارس أبشع أساليب التعذيب، التي تعلّمها من نظرائه الاستعماريين الأوروبيين، الذين ارتكبوا الفظائع بحق الشعوب في أميركا وإفريقيا وآسيا.
في كتاب "أسرى بلا حراب" وثّق المؤلفان مصطفى كبها ووديع عواودة، في الداخل المحتل عام 1948، أساليب الإذلال والتعذيب والحرمان أثناء حرب 1948،
والتي في كثير من تفاصيلها، يجري الآن استعمالها بحق أسرى قطاع غزة. لم ينتظر الصهاينة استلام ايتمار بن غفير أو بنيامين نتنياهو الحكم في الكيان الاستيطاني ليعبّروا، عبر أفعالهم الوحشية، مدى تشبّعهم بتعاليم عنصرية ومعادية للإنسانية، مستوحاة من تاريخ الاستعمار الغربي (فرنسا وبريطانيا وألمانيا)، والامبريالية الأميركية والنازية الألمانية.
أثناء حرب 1948، كان هدف التوحش الصهيوني الانتقام من الفلسطينيين والعرب الذين دافعوا عن البلاد وعن سرقة الأرض، إضافة الى تهجير الشعب الفلسطيني الى دول الجوار، وقتل من أجل القتل أكبر عدد ممكن من السكان الأصليين، لتكون وحشيتهم درسا للشعوب العربية بأن من يقف أمام "اليهودي المتمدن" لا حياة له على هذه الأرض. لقد مارس الصهاينة والبريطانيون التعذيب لمعرفة أين تم إخفاء السلاح، وطالبوا بتسليمه قبل أن يعدموا المئات من الشباب والنساء والمسنين أمام عيون أهل القرية أو الحي.
يروي جمعة غنام من طيرة الكرمل في شهادته عندما اعتقل في العام 1948 كيف تم اعدام العديد من المقاومين المعتقلين في سجن عكا،"بدم بارد"، بعد محاكمة صورية قصيرة. فيقول: "بعد أن فرغ اليهود من محاكمتنا بقينا حوالي 17 سجينا من أصل 36 سجينا، أي أعدم منا 19 شخصا ظلما وبهتانا دون محاكمة عادلة ولا محامي دفاع." واليوم، في قطاع غزة، يهدف التوحّش الصهيوني الى إبادة الشعب الذي لقّن درسا للمستعمرين أجمعهم، الصهاينة ومن يساندهم، وتهجيره، وتعذيبه من أجل معرفة أين تقع الأنفاق و"بيت السنوار".
مقابل العمل بالسخرة في حرب 48، فكان الدفن أحياء في الرمال في حرب الإبادة الحالية: "حطوا جنبنا سلاح، ودفنونا في الرمل، واعتدوا بالكلاب علينا وتركوها توسخ علينا ونحن عراة"، يقول أحد الناجين من الجحيم. وفي المرحلتين، هناك "رحلة عذاب، عذاب، عذاب.. ضرب وإهانة، ضرب مجرد ضرب.. تتنفس يضربك.."، والتعرية، والتجويع، وفصل النساء عن الرجال، وأخذ من فوق ال15 سنة الى مكان مجهول ونهب المنازل.
يقول أسير محرر آخر: "لما نزل الدم على عيني، قلت له (للصهيوني) دم، خبطنى على عيني.. تضطر تتألم بداخلك، إذا حكيت عن الألم، تنضرب زيادة.. أول ثلاثة أيام، لا ماء ولا أكل ولا دخول حمام، مجرد ضرب.. في اليوم الرابع قطعة جبنة مع رغيفين وكاسة ماء... قعدت أسبوع برد شديد بحرام واحد، برد غير طبيعي وكأنه مصطنع".
في حرب 48، يقول أحد المعتقلين أنه أُجبر على فك قرميد بيت (كان منزل أبيه) تحت السلاح، لأن الصهيوني الجشع طمع بقرميد بيت الفلسطيني، في حين يتم اليوم هدم المنزل والبنايات وحرقها، بعد إشباع المستوطن بخيرات فلسطين والشعب الفلسطيني على مدى 75 عاما من الاستعمار.
المهم بالنسبة للمتوحشين الساديين الصهاينة، كسر الفلسطيني معنويا وجسديا، وكسر الحاضنة الشعبية للمقاومة بالإذلال الى أقصى الحدود. "قعدونا 10 أيام دون حجاب قدام الجنود، في بنات عزلوهم انفرادي في الثلاجات لأكثر من 3 ساعات، وكانوا يمسكوا رأسنا ويخبطوه بناقلات الجند" (شهادة أسيرة محررة من غزة). أشار المرصد الاورومتوسطي الى أن "الشهادات توثق عمليات تعذيب قاسية ومعاملة حاطة بالكرامة الإنسانية، بما في ذلك التعرية والتحرش الجنسي أو التهديد به، تعرض معتقلات لتحرش جنسي مباشر،.. وأن عددًا من المعتقلات أبلغن أن جنودًا إسرائيليين تحرشوا بهن وأجبروهن على التعري وخلع الحجاب. وأن الجنود وجّهوا كذلك تهديدات بالاغتصاب وهتك العرض لمعتقلات ومعتقلين وذويهم، في إطار عملية التعذيب والابتزاز لإجبارهم على الإدلاء بمعلومات عن آخرين." هذا عن معتقلي قطاع غزة.
ماذا عن المعتقلين والأسرى الآخرين، ومنهم من مضى على أسره أكثر من ثلاثين عاما؟ لم ينتظر العدو السابع من أكتوبر ومعركة "طوفان الأقصى" المظفرة لتحويل السجون والمعتقلات الصهيونية الى جحيم، وخاصة بعد تسّلم الصهيوني المتوحش ايتمار بن غفير وزارة الأمن الصهيونية قبل سنة. فكان قد عرّف عن نفسه قبل سنوات، يوم اقتحم باص الصليب الأحمر الدولي كان ينقل أهالي أسرى غزة، فقام بتوجيه الإساءات اللفظية والتهديدات بالموت لهم ولأبنائهم. فاعتبر نفسه "بطلا" أمام المدنيين العزل. وعند استلامه للوزارة، لم يترك وسلية "قانونية" إلا واقترحها ثم تبنّاها الكل الصهيوني للتضييق على الأسرى، في كل مناحي حياتهم: الأكل، الصحة، النظافة، الزيارات، الاقتحامات الوحشية من قبل فرق مدججة بالسلاح، نقل الأسرى المستمر بالبوسطات الحديدية لمنع استقرارهم، إلغاء كل مكتسبات الأسرى التي نالوها من خلال معارك قاسية (الإضراب المفتوح عن الطعام) ضد مصلحة السجون وحكومة العدو.
قبل وبعد بن غفير، استشهد المئات من الأسرى في سجون العدو، بسبب المعاملة الوحشية، والتعذيب ومنع العلاج، واستشهد العديد منهم بعد الإفراج عنهم بسبب سوء المعاملة التي تسببت بأمراض مختلفة في السجن. لكن ما يعيشه الأسرى في سجون العدو، منذ انطلاقة معركة طوفان الأقصى، شكّل تصعيدا خطيرا وإرهابا ممنهجا ضد الشعب الفلسطيني، بكل فئاته العمرية.
لقد اعتقل العدو حوالي 7000 فلسطيني منذ يوم السابع من أكتوبر 2023، من الضفة الغربية والقدس، وفقا لإحصائيات نادي الأسير. وبلغ عدد الأسرى اليوم أكثر من 9000 أسير، منهم 4384 معتقل إداريّ. ارتقى 8 أسرى شهداء الى جانب مجموعة من معتقلي غزة، وكان آخرهم قبل أيام الأسير الشهيد محمد أحمد الصبار (21 عامًا) من بلدة الظاهرية/ الخليل، وكان معتقلا إداريًا منذ شهر أيار عام 2022. يحتجز الاحتلال جثامين 19 أسيرا، أقدمهم الأسير الشهيد انيس دولة، كنوع من الانتقام ضد أهلهم وشعبهم، وكورقة مساومة في أي تبادل مرتقب مع المقاومة.
لقد تم اعتقال الآلاف من الفلسطينيين كرهائن، كما أشارت العديد من الشهادات. تقول السيدة بسيل خالد أبو حميد (28 عاما، من مدينة يطا/الخليل) أنه تم اعتقالها كرهينة، لكن أبقى الاحتلال على اعتقالها بعد تسليم زوجها نفسه، علما أنها حامل. ويقول الأسير المحرر إبراهيم ضبايا: "يحاربونك في كل شيء.. البرد، الأكل، كل شي ممنوع، الضرب، كل الأوقات، في الفجر وعند النوم، يدخلون ويضربون.. بعد اغتيال أبو عصب، أوقفوا الضرب وخففوا الأكل الذي كان أصلا خفيف، يضربون بكل شيء، ويدخلون الكلاب علينا". وتحدث الأسرى المحررون عن منع المياه عنهم، للشرب أو الغسل، ومنع أدوات التنظيف والكانتينا، ومنع الفورة، منع زيارة الاهل، وفي البداية، منع زيارة المحامين، أي عزل الأسرى عن كل شيء.
أشارت الشهادات الى سياسة التجويع وقلة الأغطية والملابس للتضييق على الأسير ومنع الأدوية والعلاج الذي أدى الى استشهاد الأسير محمد الصبار. يقول أحد المحررين : "يعاني الأسرى من البرد القارس والاكتظاظ الكبير، في ظل عدم توفير ملابس كافية أو أية وسائل تدفئة، أو حتى أغطية لهم، فغالبية الأسرى اليوم في السّجون يعانون من أمراض ومشاكل صحية جرّاء الظروف الخطيرة والإجراءات الانتقامية الممنهجة التي فرضتها إدارة السّجون على الأسرى بعد السابع من أكتوبر."
تدلّ هذه الممارسات الوحشية على نفسية المستوطن الذي سرق الأرض والوطن وتعلّم في مدارس الكيان على العنصرية وكراهية الفلسطيني والعربي، والذي ينتظر الفرصة للانتقام من كل من يرفض الإستسلام له. ينتقم الصهيوني من الصفعة التي تلقاها يوم 7 أكتوبر ومن المقاومين الأشداء الذين لا يستسلمون له ولكيانه، ويظلون صامدين في وطنهم وعلى أرضهم. ينتقم من الأطفال (200 طفل معتقل من الضفة والقدس) الذين يتعلمون من آبائهم وأمهاتهم كيف يواجهون الظلم ويصبرون، في سجون بني صهيون وخارجها.
بالختام، لا يمكن تحرير الأسرى، كما أثبتت التجارب السابقة، إلا من خلال خطف الصهاينة وعمليات التبادل. تقع أهمية شعار "الكل مقابل الكل" كون الأسرى الفلسطينيين يعيشون اليوم في جحيم بسبب نزعة الانتقام لدى الصهاينة، تدعمهم كل المنظومة الدولية المبنية على الظلم والاستكبار. من ناحية أخرى، إرسال التقارير حول الأسرى للجهات والمنظمات الدولية لا فائدة منها، لأنها ما زالت "تقلق" منذ عقود ولا تفعل شيئا، غير أن توثيق الشهادات يبقى ضروري من أجل تعميق الوعي لدى شعوب العالم بطبيعة هذا الكيان الإرهابي.