يتفحص "محمد جرغون" حزمةً من الأوراق المتراصة أمامه على طاولةٍ متواضعةٍ تحمل حاسوبه المحمول وبعض الكتب والأقلام والأختام، ثم ما يلبث أن يعتدل في جلسته، بعد أن يأخذ رشفةً من فنجان القهوة بجانبه، ويبدأ بتوزيع نظره يمنةً ويسرةً، نحوَ نازِحَيْنِ اثنينِ يجلسان خلف "مكتبه الصغير"، داخل خيمةٍ بمدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، قبل أن يشرع بطرح مجموعةٍ من الأسئلة عليهما، ويُدَوِّن بعضاً من إجاباتهما على ورقة صغيرة؛ ليتمكن من دراستها بدقة وإنجاز معاملتهما بشكل قانوني سليم.
"محمد رفعت جرغون" (24 عاماً)، من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، محامٍ مُزاولٍ، ومدربٌ معتمدٌ، قرر ممارسة عمله القانوني، داخل خيمةٍ صغيرة مُغطَّاة بالنايلون حصل عليها من أحد جيرانه، أطلق عليه اسم "مكتب النازحين للمحاماة"، في ظروفٍ غير طبيعيةٍ فرضتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة المتواصلة منذ أكثر من 10 أشهر، متمسكاً بمبدئه في الدفاع عن حقوق الناس وحفظها، رغم أهوال الحرب والظروف الحالكة.
درس "جرغون" المحاماة، في كلية الحقوق بجامعة الأزهر بغزة، وتخرج منها بتفوق، وباشر في أداء مهامه القانونية بعد أن حصل على شهادة المزاولة من نقابة المحامين، وتمكن من كسب العديد من القضايا التي يُوَكِّلُه بها أصحابها، وتميز بمرافعاته القوية داخل قاعات المحاكم، ما جعله محط انتباه الكثيرين من العاملين في المهنة، وأهَّلتهُ ليكون مقدماً لبرنامجٍ اجتماعيٍّ في إذاعة "صوت الأسرة" التابعة لنقابة المحامين الشرعيين.
لم يسلم "محمد جرغون" وعائلته من أهوال الحرب على غزة، فقد نزحوا لأكثر من 7 مرات من منزلهم الذي دمرته طائرات الاحتلال، وما زال نزيف نزوحهم مستمراً، يقول خلال حديثه لمراسل "شمس نيوز": "وفي كل نزوح تُباد قلوبنا كما تُباد أجسادنا، النزوح هو اقتلاع الروح من الجسد دون رحمة".
حكاية تدمير منزل عائلة "المحامي جرغون" بدأت عصر يوم الأربعاء الموافق 24/7/2024، إذ استهدفته طائرات الاحتلال بصاروخ استطلاع بينما كان أهله يتواجدون فيه، ما أثار حالةً من الذعر الشديد والخروج منه على الفور، قبل أن تستهدفه الطائرات الحربية بشكل كلي، هنا يقف المحامي محمد جرغون، لهنيهةً، وقد تسللت دموعه خلسةً على وجنتيه، يصف بعدها شعوره ببضع كلماتٍ لخَّصت حاله، وهي: "أنفاس من لهب".
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
بعد أن كفف دموعه، والتقط أنفاسه، أكمل حديثه قائلاً: "عندما رأيت بيتي مدمراً شعرتُ بغصة في قلبي، وعندما بدأت بالسير بين أنقاضه بدأتُ أنظر الى بقايا الركام بتمعن، بدأت ذاكرتي تستعيد أصل وبداية كل شيء ألمحه، رأيتُ أمي وابتسامتها، وأبي وقوته التي لم أرَها في أحد، رأيتُ تفوق أخي وأختي، رأيتُ مكتبتي التي أحبها، رأيتُ أحلامي وأحلامهم منثورة في كل مكان".
مع عودة القضاء والمحاكم الشرعية للعمل بشكل جزئي في قطاع غزة، نمت فكرةُ "المحامي محمد جرغون"، وبمساعدة شقيقه الأكبر وتشجيعه، تمكن من افتتاح "مكتبه الجديد" بأقل الإمكانيات، إذ يعمل على تسهيل المعاملات الشرعية للنازحين، "كعقود الزواج والطلاق، وإصدار بعض الحُجج المتوفرة حالياً في المحاكم الشرعية، إضافةً إلى إبرام العقود القانونية المختلفة".
ينطلق "محمد جرغون" في فكرته من أنَّ دور المحامي ليس محصوراً في أوقات السلم فحسب، بل يجب أن يكون دوره مستمراً في أي مكان ومهما كانت الظروف، فهو (دور المحامي) -كما يرى- "دورٌ أساسيٌّ لا يمكن التجرد منه في الحروب والكوارث التي تزداد فيها معاملات البيع والشراء، والمعاملات الشرعية كالزواج والطلاق، علاوةً على أن بعض الأوراق الشرعية التي يحتاجها مواطنو القطاع المتواجدين في بلاد الغربة، كاستخراج وثيقة الزواج وتسجيل المواليد مثلاً، وهذه معاملاتٌ جوهرية لا يمكن الاستغناء عنها".
ويسعى "المحامي جرغون" جاهداً لتقديم أكبر قدرٍ من الخدمات القانونية التي تساهم في استمرارية الحياة في قطاع غزة، ويعتبر أن عمله هذا "نوعٌ من أنواع المقاومة والتحدي"، مؤكداً على أن "القانون ليس مجرد نصوصٍ تُكتب وتُحفظ في دفاتر المحاكم، بل هو روحٌ تحمي الحقوق، وتُبقي على كرامة الإنسان حتى في أحلك الظروف".
يتحدى "محمد" مع كل معاملةٍ قانونيةٍ يُنجزها، الكثير من المعيقات والصعوبات، فهو يعمل في مكان يفتقر إلى أدنى متطلبات عمله الأساسية، لا كهرباء، ولا ماكينات تصوير، ولا انترنت جيد للتواصل مع موكليه في الخارج، ولا مكان ثابت للموكلين النازحين، وحتى للقضاة الذين يعملون أحياناً داخل من داخل بيوتهم وأحياناً أخرى من المستشفيات، ما يجعل المعاملة تأخذ وقتاً وجهداً أكبر.
ويطمح "المحامي محمد رفعت جرغون" إلى تكوين فريقٍ قانونيٍّ يعمل على تسهيل معاملات النازحين وإنجازها في أسرع وقت وتحت أي ظرف، لافتاً إلى أهمية إنشاء "نقطة قانونية" على غرار "النقاط الطبية" التي باتت منتشرة في أنحاء متفرقة بالقرب من أماكن النزوح، يوضح: "كما أن النقطة الطبية تُعالج الجروح والأمراض، فإن النقطة القانونية تحفظ الحقوق وتُعالج جروح الأسرة وشروخ المجتمع خصوصاً في ظل هذه الظروف الصعبة". ويأمل من المؤسسات الدولية المختصة تبني هذه الفكر وتعميمها.