الانفجارات تتوالى من كل حدب وصوب، ألسنة اللهب كأنَّها براكين فوَّارة تتدفق غضباً؛ لتحيل زرقة السماء إلى بحرٍ من السواد، وتُغرِقَ الأفق في ظلمةٍ لا نهاية لها؛ بفعل تصاعد ألسنة الدخان، صلياتُ النار الكثيفة التي اخترقت جدران المشفى الأهلي العربي "المعمداني" تخلع القلوب.. كان جنود جيش الاحتلال من كل حدب ينسلون، وقع أقدامهم كأنه زلزال يدك الأرض دكاً، ورصاص بنادقهم تخترق صدور النازحين هناك لتتساقط جثث الشهداء تتراً كزخات المطر، وتفرض القوات المقتحمة حصاراً مطبقاً، وطوقاً عسكرياً حول المشفى، وتعيث فساداً فيه وخراباً، وتنكل بالنازحين والعاملين والأطباء، قتلاً، وجرحاً، واعتقالاً، "هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدً".
استهداف القطاع الصحي في غزة كان جزءاً من سياسة ممنهجة تتبعها "إسرائيل" في ظل حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على غزة منذ عامٍ كاملٍ، فقد استهدف المستشفيات بشكل مباشر، ودمر العديد منها بالكامل، كمجمع الشفاء الطبي -أكبر مجمع طبي في قطاع غزة-، لتتحول ممراته إلى كهف من الدمار، اختلطت فيه دماء الشهداء والجرحى بالأدوية والركام!
ولم تتوقف تلك الجرائم عند حدود التدمير والنسف، بل تجاوزتها إلى الاستهداف المباشر والقتل المتعمد للأطباء والممرضين والعاملين في المجال الطبي والرعاية الصحية، واعتقال العديد منهم في ظروف بالغة القسوة، قُتِلَ على إثرِها عددٌ تحت التعذيب.
وبلغ عدد شهداء القطاع الصحي 986 كادراً صحياً منهم 4 استشهدوا تحت التعذيب الوحشي داخل السجون الإسرائيلية.
من بين شهداء الأسرة الطبية، الدكتور "عدنان البرش"، وهو رئيس قسم العظام بمستشفى الشفاء، ويُعدُّ من أمهر جراحي قطاع غزة، فقد استشهد تحت التعذيب في سجن "عوفر" الإسرائيلي في 19 أبريل الماضي، بعد أن اعتقلته قوات الاحتلال برفقة مجموعة من زملائه في ديسمبر الماضي من مستشفى العودة شمالي القطاع، وظلَّ على مدى أشهر يُنقل من سجنٍ إلى آخر حتى أُعلِنَ عن استشهاده، ولا يزال جثمانه محتجزاً لدى الاحتلال.
كما استشهد الدكتور إياد الرنتيسي، رئيس قسم الولادة بمستشفى كمال عدوان في بيت لاهيا شمالي القطاع، في سجن "شكيما" التابع لجهاز "الشاباك"، بعد 6 أيام من اعتقاله في 11 نوفمبر الماضي عند نقطة تفتيش، حينما كان ينوي العبور من شمال غزة إلى جنوبها، وأخفى الاحتلال نبأ استشهاده 7 أشهر.
كذلك استشهد الحكيم "زياد الدلو" تحت التعذيب الشديد في سجون الاحتلال، وقد اعتقاله من مجمع الشفاء الطبي في 18 من مارس الماضي، في انتهاكٍ صارخٍ للقانون الدولي الإنساني والمواثيق الدولية، كما قال بيان لوزارة الصحة.
ولا يزال الاحتلال يعتقل في سجونه أكثر من 300 أسيراً من الطواقم والكوادر الصحية، مع مرور عام كامل من حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وفقاً لما أعلنته وزارة الصحة بغزة.
من بين المعتقلين، الدكتور "غسان أبو زهري"، رئيس أقسام العظام في مجمع ناصر الطبي، ويُعدُّّ من أمهر جراحي العظام في قطاع غزة، إذ اعتقلته قوات الاحتلال في 14 فبراير الماضي بعد اقتحامها المجمع الطبي، أثناء قيامه بواجبه الإنساني في رعاية الجرحى والمرضى، ورفضه مغادرة عمله حتى بعد تدمير منزله بشكل كلي، ولا يزال معتقلاً حتى كتابة هذه السطور.
في غرفة التحقيق، وبين زوايا جدرانٍ تلسع أجسادهم برداً وزمهريراً، وأرضيةٍ من حجارةٍ صغيرةٍ حادةٍ متكومةٍ بعضها فوق بعض تغرز أنيابها في أقدامهم مُسبِّبةً جروحاً داميةً، داخل "جحيم" استقبلهم بالرعب، مكبلي الأيدي، معصوبي الأعين، مجردين من الملابس، يذيقهم "المحققون" سوء العذاب، كانت أصوات صراخ الطبيب "عصام أبو عجوة" ومن معه من أطباء وممرضين تتداخل مع صدى سياط السجان التي تكوي الجلود، وعصيه التي تحطم العظام، وتكسر سكون الصمت المرعب وسط حلكة الليل البائس، يتنفسون بتسارع شديد كأنَّ أرواحهم تنتزع انتزاعاً.. هنا قاعدة "الموسيقى" العسكرية!
"عصام أبو عجوة" (63 عاماً)، طبيبٌ جرَّاحٌ متقاعدٌ من قطاع غزة، انضم للعمل متطوعاً في وزارة الصحة خلال الحرب، لكنه لم يكن يتوقع أن يكون يوم 17 كانون الأول الماضي، آخرَ نوبة (دوام) له في المستشفى الأهلي العربي "المعمداني" شرق مدينة غزة، قبل أن تتحول حياته لكابوس "فظيع"، بعد إقدام قوات الاحتلال الإسرائيلي على اعتقاله أثناء اقتحامها المشفى خلال عدوانها المستمر على القطاع منذ أكثر من عامٍ كاملٍ.
اقتادت قوات الاحتلال الطبيب "أبو عجوة" هو ومجموعة من المواطنين، بعد أن كبَّلت أياديهم وأقدامهم، وعصبت أعينهم، إلى أماكن مجهولة، وتركوهم في حفرة رملية على شاطئ البحر، عُراةً، في بردٍ قارسٍ لأكثر من 17 ساعة مرَّت عليهم كأنها الدهر، وفق ما قاله.
لكن تلك الساعات لم تكن سوى البداية لرحلة "الجحيم"، إذ نُقل "أبو عجوة" بعدها إلى قاعدة عسكرية يُطلق عليها "البركسات"، وهناك بدأ "الجحيم" الحقيقي، فعلى مدار أكثر من 125 يوماً خضع لأقسى أنواع التحقيق والتعذيب النفسي والجسدي دون رحمة، وكانت تلك الفترة كما قال: "أكثر الأيام وحشية في حياته".
مضت تلك الأيام بتباطؤ شديد، فقد فيها 37 كيلو غراماً من وزنه، قبل أن يُنقل إلى مكان عسكري يسمى "الموسيقى" ذاق فيها شتى صنوف العذاب من شبح، وضرب، وتجويع، إذ كانت وجبة الطعام اليومية عبارة عن معلقة ونصف فقط من الأرز أو الفول مع قطعة خضار صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع، وإهانة، وسب، وشتم، ووسط برودة الطقس كان جيش الاحتلال يتعمد سكب المياه الباردة على أجساد المعتقلين مع تسليط أجهزة التبريد صوبهم.
وسط تلك المعاناة، كان "السَّجانون" يقتادونه كل نحو ساعتين لغرفة التحقيق، وهناك كان "المحققون" يسألونه عن أماكن وجود الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة بغزة، لكنه كان يصرخ بهم: "أنا طبيب! أعمل في مشفى وأعالج الناس، ولا علاقة لي بأي أمور أخرى"، لكنهم لم يكونوا ينصتوا لحديثه، وهددوه بشل يديه وبترهما.
يقول: "كل طبيب في قطاع غزة مطلوب لإسرائيل كونه متهماً بممارسة دوره الإنساني".
وعلى الرغم من ذلك كله، لم يرضخ لتهديدات الاحتلال، وبقي ثابتاً وصامداً، وبنبرة مشبعة بالتحدي، أخبر ضابط جيش الاحتلال الذي هدده ببتر يديه وبشل قدرته على ممارسة المهنة، بأنه "سأعود إلى ممارسة مهنتي وعلاج الجرحى فور إطلاق سراحي، حتى لو كنت على كرسي متحرك".
بعد 200 يوم من ذلك "الكابوس"، أُفرِج عن الطبيب "عصام أبو عجوة"، وعاد إلى العمل في مستشفى شهداء الأقصى بعد أقل من 3 أيام على الإفراج عنه، ووقف في غرفة العمليات مرتدياً معطفه الأبيض، في رسالة تحدٍّ لإدارة سجون الاحتلال ومحققيها، بأن الفلسطيني لا يُقهر.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
في زاوية أخرى من زوايا البؤس وحكايات الوجع، ينهمك الطبيب إياد شقورة (42 عاماً) وهو صيدلي يعمل في غرفة الطوارئ بمجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، في متابعة الجرحى والشهداء في المشفى، ليُفجع يوم 7 من نوفمبر الماضي، بعد اكتشافه أن أفراد عائلته بين ضحايا الغارة التي استهدفت منزل عائلته للمرة الثانية.
بعد أن استفاق من هول الصدمة الأولى، بدأ "شقورة" يتفحص جثامين شهداء عائلته، الذين تم لفهم بأكفان بيضاء على طاولة المشرحة في قسم الطوارئ، بعينين تنهمر منهما الدموع، ويعدِّد أسماء أصحاب الجثامين واحداً تلو آخر "في هذه الضربة، فقدت والدتي زينب أبو دية، وفقدت أَخَوَيَّ محمود وحسين شقورة، وأختي إسراء شقورة مع ابنيها حسين ونبيل، وفقدت ابْنَيْ، فَلْذَتَيْ كبدي عبد الرحمن (7 سنوات) وعمر (5 سنوات)".
وأضاف "شقورة"، وهو يضع جبهته على جبهة طفله عبد الرحمن التي كانت ملطخة بالدماء: "لدي 5 أطفال، ولكنه كان الابن المُفَضَّلَ بالنسبة لي". وَوُضِعَتْ جثتا عبد الرحمن وشقيقه في كفنٍ واحد.
وأبقى "شقورة" تساؤلاً يدق جدران الإنسانية، وهو يجهز أطفاله لعرسهم الأخير: "ما الذنب الذي اقترفه أطفالي حتى تُصَبَّ على رؤوسهم أطنان من القنابل وأطنان من المتفجرات".
وعلى مدار عام من الإبادة، لم يخلع أطباء غزة معاطفهم البيضاء، ولم يغادروا مستشفياتهم، ولم يعرفوا طعماً للراحة، متنقلين من غرفة عمليات إلى أخرى، ومن سرير مصاب إلى آخر يُناضل لالتقاط أنفاسه الأخيرة، في في ممرات أقسام المستشفيات وأروقتها، متسلحين بروح الإرادة والعزيمة، رغم ضعف الإمكانات الطبية واللوجستية في المستشفيات التي أضحت "ملاذاً للأنين والألم" بفعل الحرب المتواصلة على قطاع غزة.
خسائر القطاع الصحي
ومع مرور عام على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قالت وزارة الصحة بغزة، إن "الاحتلال عمد إلى تشديد ضرباته للمنظومة الصحية، استكمالاً لما ألحقه الاحتلال بها طيلة 18عاماً من الحصار، حيث أمعن في حرمان المرضى من حقوقهم العلاجية وسلبهم عن سابق اصرار أبسط فرص للعلاج بإبقاء عديد الأصناف الدوائية والمستهلكات الطبية ضمن دائرة المعدلات الصفرية، وقطع الطريق أمام الامدادات والتجهيزات الطبية، وأمام حركة خروج المرضى نحو المستشفيات التخصصية، منع دخول الوفود".
وأكدت الوزارة، في بيان، أن "ما سجلته الإحصائيات بعد عام من حرب الابادة على قطاع غزة يدلل على مدى تركيز الاحتلال على تدمير المنظومة الصحية، حيث تم استهداف ما يقارب 65% من المؤسسات الصحية (الحكومية– الأهلية– الخاصة– وكالة الغوث– الدولية)"، مشيرةً إلى أن ما تبقى يعمل بشكل جزئي وبنسبة إشغال 300% وخاصةً في أقسام العناية المركزة والحضانات".
ووفق البيان، فإن "الاستهداف الممنهج والدائم للقطاع الصحي حرم ما يزيد عن مليوني شخص في قطاع غزة من تلقي الخدمات الصحية الأساسية، فهناك ما يزيد عن 50 ألف امرأة حامل محرومه من تقديم الخدمات الصحية ورعاية الأمومة، و1200 مريض سرطان ينهش المرض أجسامهم ولا يلتقون العلاجات الأساسية حتى المسكنات، إضافةً إلى المئات من مرضى غسيل الكلى الذين فارقوا الحياة نتيجة عدم توفر رعاية صحية لهم وانعدام خدمات غسيل الكلى في كثير من المستشفيات"، لافتةً إلى أن أضعاف من ارتقوا شهداء من المرضى قد توفوا نتيجة نقص الخدمات الطبية.
وطالبت وزارة الصحة بـ"وقف العدوان وآلة القتل، والسماح لآلاف الجرحى بمغادرة قطاع غزة نحو المستشفيات التخصصية؛ لإجراء عمليات جراحية معقدة لهم بعد أن تفاقمت حالتهم الصحية جراء الممارسات العقابية بحقهم".
كما طالبت كافةَ الجهات ذات العلاقة بإيجاد آليات ضامنة لوصول الإمدادات الطبية إلى كافة المستشفيات دون قيود، والسماح بدخول الوفود الطبية، وتأمين الوصول للمرافق الطبية وحمايتها.
وأكدت أن طواقمها وكادرها متمسكون بأداء رسالتهم الإنسانية مهما كلف ذلك من تضحيات. وتقدمت بالتحية والاعتزاز الى "الكوادر الطبية في مختلف مواقع العمل والتي تداعت من اللحظات الأولى للعدوان في تقديم الرعاية الصحية والتعبير بصدق الانتماء والبذل والعطاء".