لم يتمكن المواطن عليَّ عساف من الوقوف على قدميه من هول المشهد؛ جلس داخل السيارة ينظر بعينه الدامعتين يُمنة ويسرة بألم وحسرة، تحيطه الأكفان البيضاء من كل جانب، أكفان ممتلئة بأشلاء الأطفال والنساء والرجال من عائلته، حاول أصدقائه وجيرانه قدر المستطاع تخفيف المصاب الجلل، 15 شخصًا من عائلة عساف استشهدوا جميعًا في استهداف إسرائيلي غادر ليلة السبت الـ (12 من أكتوبر 2024) في مدينة جباليا البلد شمال قطاع غزة.
المواطن علي عساف هو الناجي الوحيد من المجزرة الإسرائيلية التي استهدفت عائلته، لم يتفوه بكلمة لقوة الصدمة التي تعرض لها، يقف إلى جانبه أحد المواطنين حاملًا بين ذراعيه كفن لطفلٍ صغير، وبغضب يعصف فكره وعقله صرخ: "15 شهيدًا من عائلة عساف تمسح من السجل المدني، ولم يبقَ سوى علي عساف هو الناجي الوحيد من المجزرة، لماذا لأنهم يقولون ربنا الله، والله لن نخرج من شمال غزة إلا إلى جنان الله عز وجل".
توقف المواطن برهة من الوقت ثم صدحت حناجر من يرافقه بالتهليل والتكبير؛ ليعود بصوته المفعم بالقوة والتحدي مؤكدًا: "سنبقى صامدين شامخين ثابتين باذا الله في شمال غزة، لن ترعبنا طائراتهم ولا أسلحتهم، والله نتمنى الشهادة في سبيل الله كل يوم".
"سنبقى صامدين ولن نرحل" هذه المقولة ما زال أهالي سكان شمال قطاع غزة يتمسكون بها في المرحلة الحالية بعد قرار جيش الاحتلال الإسرائيلي باجتياح شمال القطاع ومحاصرته بالكامل لليوم السابع على التوالي محاولًا تهجير من تبقى من أهالي شمال القطاع، إلى جنوب وادي غزة حيث المناطق التي يزعم بأنها "آمنة".
على مدار سبعة أيام متواصلة لم تتوقف فوهات طائرات الـ "كواد كابتر" من قنص كل شيء متحرك في مدن شمال القطاع، فلم يخلُ شارع إلا ويوجد به جثة ملقاة على الطرقات، أو دماءٌ تلون الأرض أو ركامٌ يعرقل السير حتى باتت مدن شمال القطاع أشبه بمناطق أشباح.
لم تكن طائرات "كواد كابتر" وحدها تحلق في سماء شمال القطاع، إنما كل أنواع الطائرات الحربية تلقي بأطنان من المتفجرات على الأطفال والنساء وكبار السن، يرافقها آليات ومدرعات الاحتلال التي تحاصر كافة مدن الشمال من بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا المعسكر وجباليا البلد ومنطقة الصفطاوي محاولة فصل تلك المناطق عن مدينة غزة.
منذ بداية الاجتياح البري وفصل شمال القطاع عن مدينة غزة ارتكب جيش الاحتلال مجازر عدة، راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، ورغم المجازر والحصار والدمار إلا أن سكان شمال القطاع كالعنقاء التي تخرج من تحت الركام لتواصل صمودها وثباتها وافشال كل مخططات الاحتلال الإسرائيلي بالتهجير القسري.
فالزميل الصحفي محمود العويضة، رصد معاناة المواطنين والنازحين شمال القطاع، ولم يجد في عيونهم إلا الصبر والصمود كطائر العنقاء إذ يقول: "كلما تحدثت مع المواطنين والنازحين لم أجد منهم إلا إصرارًا على التحدي والصمود ولسانهم يقول: "لن نرحل ولو قتلونا وقطعونا".
أما المواطن محمود الشوبكي، والذي امتلأت صفحته عبر منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك" بنعي إخوانه وأصدقائه من الشهداء الأبطال، فقد أصرّ على البقاء في الشمال مرددًا: مش طالعين..إيش م يعملوا يعملوا".
وفي حساب آخر باسم محمد الحلاق فامتلأ حسابه بأحاديث -رسول الله صلى الله عليه وسلم- التي توضح عظم أجر الرباط في وجه المحتل" ومن منشوراته التي نصح بها أهل الشمال: "أعقد النية للثبات في الشَّمال، ففيه خصال: تحصيل أجر الرباط في سبيل الله وتفويت الفرصة على الأعداء".
وفي السياق ذاته فقد وجهت وزارة الداخلية والأمن الوطني تحية الصمود والإباء إلى أبناء شعبنا الصامدين في منازلهم، في مناطق مخيم جباليا وجباليا البلد والنزلة وبيت لاهيا وبيت حانون، وسائر مناطق محافظة شمال غزة الذين يواجهون العدوان الإسرائيلي الهمجي لليوم الثامن على التوالي، ويرفضون إخلاء منازلهم رغم جرائم الاحتلال ووحشيته.
ودعت وزارة الداخلية في تصريح وصل "شمس نيوز" نسخة عنه اليوم السبت، جميع أبناء شعبنا لمزيد من الثبات وعدم مغادرة منازلهم خاصة في المناطق التي وجه الاحتلال لها تهديدات صباح اليوم في مناطق: "الصفطاوي، وأبو إسكندر بحي الشيخ رضوان"، ونوجه المواطنين أنه حال شعورهم بالخطر الانتقال إلى أقرب مكان مجاور لمنطقة سكنهم، وعدم التوجه إلى جنوب قطاع غزة الذي يعاني من القصف المتواصل والقتل المستمر الذي يمارسه الاحتلال يومياً في المناطق التي يدّعي أنها آمنة.
وناشدت داخلية غزة، دول العالم قاطبة وكل المؤسسات الدولية أن تمارس الضغط على الاحتلال لوقف جرائم الإبادة والتهجير بحق شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة.