في الأعوام العشرين الأخيرة ظهرت إلى العلن العشرات وربما المئات من القنوات التلفزيونية، بحيث حملت كلّ منها بصمة معينة تشير إلى الغاية من وراء إنشائها، بالإضافة إلى الجهة التي تقف من ورائها، حتى وإن احتجبت وراء شركات وهمية، وعناوين مضلّلة.
هذه القنوات التي بلغت المصروفات التشغيلية لبعضها ملايين الدولارات شهريا وفي بعض الأحيان أكثر، وتدفع إلى ضيوفها الذين تختارهم بعناية لخدمة روايتها، والتي هي في الأساس رواية مشغليها وداعميها بالعملة الخضراء، الأمر الذي يعمي أبصارهم ويسلب عقولهم، ويحوّلهم إلى مجرد روبوتات آلية تنطق بما أراد صانعها، وتنظّر لأفكار ومبادئ كانت في معظمها موجهة لخدمة "السيّد" الذي يجلس خلف الستار، ويحرّك من مكانه كل الدمى التي تتحرك على مسرح هذه القنوات والشبكات.
ونجحت بعض هذه القنوات، وتحديداً ذلك القسم الذي ركن إلى امبراطوريات تنوء من مفاتيح خزائنها طائرات الشحن الكبرى، ويخوت مالكيها الفارهة، في إحداث تحوّلات مهمة ولافتة على صعيد المنطقة والعالم، صبّت جميعها في خدمة محور الشر الذي تقف في المقدمة منه الولايات المتحدة الأميركية، وتمثّل "الدولة "العبرية رأس حربته المتقدمة في المنطقة.
وتمكّنت في ظل حالة من الجهل وقلّة المعرفة غير المسبوقين في أوساط الأمتين العربية والإسلامية، والتي انشغل عدد كبير من أبنائها في البحث عن ذواتهم في عوالم أخرى تميزت في معظمها بالخلاعة والفسوق والترف، والتشبّه بالآخرين من شعوب وقوميات لم تقف في يوم من الأيام سوى في خندق العداء لهذه الأمة، التي كانت فيما مضى ذات تاريخ عريق، أضاعه البعض من الحكّام والأمراء والملوك في زواريب السياسة العفنة من جهة، وفي نوادي القمار والملاهي الليلية من جهة أخرى.
في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ المنطقة والإقليم، وبينما كان الغرب الاستعماري يستعد لوضع خريطة جديدة للمنطقة، سمّتها الشمطاء كونداليزا رايس، في عام 2006، الشرق أوسط الجديد، الذي تصبح فيه "إسرائيل " سيدة المنطقة من دون أي منازع، وشرطيّها الغليظ الذي يضرب بسوطه كل من يقول لا في وجه قوى الشر والعدوان، وفي ظل انكفاءة مخيفة من عدد هائل من المثقفين وأهل العلم والبصيرة تفاديا لوصفهم بالإرهاب، ظهرت قناة الميادين الإعلامية، كأنها ريحانة عطرة في وسط حقول من الشوك والصبّار، ظهرت كأنها غمامة ممطرة سقت بعذب مائها قوماً أنهكهم العطش والظمأ في وسط صحراء قاحلة، ظهرت الميادين كلوحة من الفسيفساء النادرة في قاعة عرض مليئة باللوحات المزيّفة والمسروقة وفاقدة الهوية.
منذ ذلك الحين باتت شبكة الميادين بعد توسّعها وتعدّد وسائلها وأدواتها، وبعد رفدها بالطواقم المهنية من مذيعين ومعدّين وفنيين ومراسلين وإداريين، واحدة من أكثر القنوات العربية تأثيراً وإلهاماً للجماهير.
وعلى الرغم من عمرها القصير نسبياً قياساً بقنوات ومحطّات أخرى، وعلى رغم إمكاناتها المادية المتواضعة إذا ما قورنت بشبكات وقنوات تقف وراءها إمبراطوريات مالية ضخمة، إلى جانب التضييق الذي عانته في بعض الدول نتيجة التحريض والفتنة التي عمل البعض على إثارتها، فإنها استطاعت بكثير من العناد والإصرار، وبكثير من الإيمان برسالتها الإعلامية الصادقة، أن تشق طريقها بسرعة البرق لتصل إلى كل بيت، ولتخترق كل حصن، ولتروي بمعين صدقها، وانحيازها إلى قضايا المظلومين والمعذّبين، عطش كل الذين كانوا ينشدون إعلاماً صادقاً، ومهنياً، ومنحازاً إلى قضايا العدل والخير والإنسانية.
منذ تلك اللحظة التي أصبحت فيها شبكة الميادين عنواناً لمناصرة قضايا المظلومين في المنطقة والعالم، ومنذ أن ظهرت هويتها الوطنية المقاومة بوضوح ومن دون أي مساحيق أو عناوين مضلّلة، وبعد أن حسمت بما لا يدع مجالاً للشك انحيازها إلى كل قوى المقاومة في المنطقة والعالم، ووقوفها دون خوف أو وجل في وجه قوى الشر والإجرام مهما بلغت قوتها وعنجهيّتها، منذ ذلك الحين أصبحت الميادين على مهداف قوى الشر، وباتت مهمة محاصرتها والتضييق عليها، ومحاولات التشويه الدائم لخطّها المقاوم، موضوعة على طاولة أصحاب القرار في دول الإجرام والعدوان، والذين لم يكتفوا بمحاولات الحظر عبر الأقمار الاصطناعية، أو التشويش على بث القناة واختراق منصاتها الإلكترونية، وإنما ذهبوا إلى أبعد من ذلك باستهداف مراسليها الميدانيين، وطواقمها الفنية التي تعمل على نقل الحقيقة من قلب الميدان، إذ تكرّر هذا الأمر في العراق وسوريا وفلسطين، وأخيراً، كما يبدو، لن يكون آخر في جنوب لبنان، حيث تم استهداف طواقم القناة بالقصف المباشر من الطيران الحربي من دون سابق إنذار، وهو ما نتج منه استشهاد إثنين من المصورين، إلى جانب زميلهم في قناة المنار.
هذا العدوان الصهيوني الغاشم، والذي لم يراعِ كما هي عادة هذا الكيان المارق حرمة الطواقم الصحافية، ولا الشارات التي يحملونها على أجسادهم المنهكة من جراء ساعات طويلة يقفون فيها في الحر الشديد حيناً، وفي البرد حيناً آخر، ولا وقوف المصورين والفنيين لساعات خلف عدسات كاميراتهم لنقل الحقيقة، أو جزء منها على أقل تقدير، هذا العدوان يهدف في الأساس إلى قتل كل من يكشف جرائم هذا الاحتلال الدموي، أو يفضح ما يرتكبه من مذابح بحق المدنيين العزل، والتي ترتقي بحسب كل المواثيق الدولية لتصبح جرائم إبادة جماعية، والتي لشديد الأسف تمر من دون أن يحرّك هذا العالم الظالم ساكناً لمنعها أو وقفها.
إن الجريمة، التي ارتكبها الاحتلال المجرم في بلدة حاصبيا الجنوبية باستهدافه الطواقم الصحافية بهذا الشكل السافر، ما كانت لتمر لولا الدعم الأميركي المكشوف، ولولا الضعف والهوان اللذان تمر فيهما أمتنا العربية والإسلامية التي تعيش إحدى أسوأ مراحلها على الإطلاق، ولولا بقية الشرف في لبنان الشريف، واليمن السعيد رغماً عن أنف كل من أميركا و"إسرائيل"، وعراق البطولة، وشام التضحية والفداء، لقلنا إن هذه الأمة ماتت، وتحوّلت إلى جيفة ينعق فوقها بقاياها البوم، ويعشعش على أنقاضها الغربان.
على كل حال، نحن على ثقة تامة بأن هذا الاستهداف لطواقم قناة الميادين لن يفت في عضدها، ولن يكسر إرادتها الصلبة، والتي نرى جزءاً منها عبر الشاشة، وجزءاً آخر في الميدان، هذه الإرادة التي ظهر بعضها في مداخلة المراسل الفدائي علي مرتضى عبر شاشة القناة صباح الجمعة، والتي أعلن فيها وهو من قلب الميدان، وليس بعيدا عن حدود فلسطين المحتلة، وهو يعرف تماماً أن طائرات الاحتلال، عبر مختلف أنواعها، تحلّق فوق رأسه، أنه سيواصل عمله في نقل الحقيقة كما هي، حتى لو أدى الأمر إلى التحاقه بقافلة الشهداء التي سقطت في طريق القدس.
جزء آخر شاهدناه في تقرير المراسلة البطلة فاطمة فتوني، التي نجت من القصف الغادر لمكان الإقامة المستهدف، وهي تعلن، من دون أن ترتدي درعها الصحافية، والتي لم تعد قادرة نتيجة تخاذل المجتمع الدولي على حمايتهم من بطش مجرمي الحرب، والقتلة وسفاكي الدماء، أنها ستُبقي على عهد رفاقها الشهداء من طاقم الميادين، وأن صواريخ الاحتلال لن تستطيع أن تحجب صوت الحقيقة، مهما بلغت التضحيات، ومهما ارتفعت نسبة المخاطر.
إن قناة إخبارية تحمل هذه الجينات الهائلة من العنفوان والإصرار على كشف الحقيقة، وتتصدّى بلحمها وعظمها ودماء منتسبيها لفبركات المرجفين وأكاذيبهم، وتدفع في سبيل ذلك أثماناً كبيرة ربما تزداد في المستقبل كمّاً ونوعاً، لا يمكن لها أن تنكسر أو تتراجع، ولا يمكن لكل قوى الشر، مهما امتلكت من إمكانات، ومهما استخدمت من وسائل، أن تدفعها إلى التراجع أو التقهقر. وهي قادرة، بعزيمة كل من يعمل بين جنباتها، وتحت مظلتها، أن تتخطّى كل الصعاب، وأن تتجاوز كل الأزمات، وأن تصل من دون أدنى شك إلى كل ما تصبو إليه من خير وعدالة.
تحية من غزة المحاصرة والمكلومة والمذبوحة إلى قناة الميادين العزيزة، تحية إلى مجلس إدارتها برئاسة الصديق العنيد غسان بن جدّو، تحية إلى كل المذيعين والمعدّين والمحررين، تحية إلى الميادين أونلاين، وكل مواقع شبكة الميادين في شبكات التواصل المتعددة، وتحية ملؤها الفخر والاعتزاز للمراسلين الأبطال، للفدائيين في الميادين المتعددة، وعند الحدود في لبنان وغزة، تحية إليهم من كل أهل فلسطين، ومن كل أحرار العالم، فهم صوتنا وصوت المظلومين، وسندنا وسند كل المعذبين، وصورتنا وصورة كل المقاومين.
ختاماً، ما زلت أذكر عندما كنت عبر شاشة الميادين قبل عامين تقريباً، حيث كانت تبث من استديو أُقيم في أرض دمشق الحبيبة بعد انقشاع غمامة التكفيريين وأعوانهم عن شام العروبة، حينها عبّرت للصديق كمال خلف الذي كان يدير الحوار عن سعادتي بهذا البث من قلب سوريا العزيزة، والتي تشرّفت بزيارتها قبل عدة أعوام، فرد بكلمات عذبة ما زلت أسمع صداها حتى اليوم، بحيث قال: إن شاء الله فسوف نلتقي معاً في بث مباشر من فلسطين، ومن باحات المسجد الأقصى المبارك.
هذا اليوم أراه قريباً بإذن الله، على الرغم من قسوة المعاناة، وحجم التضحيات، إلا أن أملنا في نصر الله كبير وليس له حدود، حينها سيسقط وهم "إسرائيل" الكبرى إلى غير رجعة، وستعود الأرض إلى أصحابها الذين رووا ترابها بعرقهم ودمائهم وأشلائهم.