غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

خيطُ حياة وغرزةُ أمل!

"نور".. يتيمة تخيط بؤس عائلتها بخيوط أمل بين أحذية بالية!

نور
شمس نيوز - خاص

كان مثيراً للغرابةِ أن تطلب طفلة صغيرة مثلها من رجل غريب مثلي أن يساعدها في تخليص إبرة عالقة في نعل حذاء بني مهترئ، التفتُّ ناحية الصوت، ولم أكن أرى وجهها، كل ما ظهر أمامي يديها الصغيرتين، اللتان تتصارعان مع النعل كأنهما في معركة خاسرة، كانت الإبرة ذات المقبض الخشبي أكبر من كفيها الصغيرتين، وأصابعها مليئة بالخدوش والوخزات.

 "يا عمو... ممكن تساعدني؟!".. صوتها الصغير اخترق الصمت حين نادتني، دون أن تعرفني، اقتربتُ منها، وإذا بي أجد أمامي طفلةً ترفع الحذاء بحركة حازمة كأنها تقول لي: "خُذْ، أخرجها"، انحنيت نحوها، سحبت الإبرة بحذر، ونصحتها بأنْ "لا تلعبي بهذه الأدوات، ممكن تأذيكِ"، رفعت وجهها لأول مرة، بعينين واسعتين، فيهما بقايا طفولة لم تكتمل، أجابتني بهدوء يشبه صرخة مكتومة: "أنا ما بلعب... أنا بشتغل".

دهشةٌ أصابتني عندما تلقيتُ ردَّ الطفلة، رحتُ اسرحُ في جوابها، وراحت هي على فورها تغرزُ الإبرة في حذاء آخر من بين الأحذية المكدسة، التي بعضها ينتظر دوراً، ويشهد على ساعات من العمل المضني.

 

بين غرزة وخيط!

نور يونس العمايرة، طفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام، لكنها تحيا بعمر يسبق سنها بكثير، هي ليست مجرد طفلة تعمل، بل ابنة الشهيد وأم صغيرة لإخوتها، فقدت والدها في الحرب، ونزحت مع عائلتها من بيت لاهيا إلى مخيم اليرموك في مدينة غزة، هناك بين الخيام المهترئة، قررت أن تصبح عونًا لأمها وأختًا مسؤولة لأربعة أشقاء، تقول بعفوية "لو كان أبوي موجود، ما كنت بشتغل هيك!."

غياب والدها لم يكن خيارًا، تمامًا كما لم يكن خيارًا أن تجد أمها تبكي في الخيمة كل يوم، متحدثة عن ضيق الحال وعدم القدرة على توفير لقمة لإخوتها، تقول على استحياء وظهرها الصغير محني على طاولة التصليح "كنت أشوف أمي تبكي كل يوم... تقول ما في أكل لإخواتي.. قررت أشتغل!".

 

رحلة إلى عالم الأحذية البالية!

لم تكن نور تعرف شيئاً عن تصليح الأحذية قبل الحرب. الفكرة بدأت عندما وجدت أدوات قديمة لخالها كان يستخدمها لإصلاح "الكاوتشوك"، جربت إصلاح حذاء زهري اللون لصديقتها النازحة معها، فنجحت المحاولة الأولى، ومن هناك بدأت رحلتها.

في المخيم، كانت فكرة شراء الأحذية الجديدة رفاهية لا يملكها أحد، أسعارها تجاوزت قدرة البسطاء، فباتت الأحذية البالية ملاذاً، وحلاً سحرياً للبائسين، فبيديها الصغيرتين تعيد نور الحياة إلى المهترئة منها، وتتقاضى أجراً رمزياً، وأحياناً لا تطلب شيئاً، تقول للزبون الفقير بصوت خافت: "صدقة عن روح أبوي".

جذبني عناية نور بأدواتها البسيطة التي تبدو أعظم ممتلكاتها، فبعد انتهاء عملها اليومي، تنظفها بعناية، تلفها بقطعة قماش قديمة، ثم تدسها تحت مخدتها في الخيمة التي تأويها مع أمها وإخوتها، تقول: "لو ضاعت الأدوات، ما راح أقدر أشتغل... يعني ما راح نقدر نأكل".

"نور، تعالي افطري".. صوت نداء خافت من الخيمة يخرج على استحياء يبدو لوالدتها، تترك نور أدواتها، تغسل يديها بسرعة في دلو ماءٍ بجانبها، تدخل للحظات، ثم تخرج برغيف خبز قديم، تعرضه على من حولها بعفوية وصدق: "تفضلوا؟!"، لكن الجميع يعتذر، هم يعلمون أن ذلك الرغيف بالكاد يكفيها وعائلتها.

 

لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام

أحلام مع وقف التنفيذ!

كل شيء في نور يحكي عن قسوة الحياة، ثوبها القديم الواسع، المثقوب والممزق، قدماها العاريتان، النحيلتان مثل عودي ثقاب، تتحركان بخفة وهي تتنقل بين الأدوات ومن جانبٍ إلى آخر، ورغم ذلك، كان وجهها يحمل لمحة من الحياة، وابتسامتها تطل بين الحين والآخر وهي تمازح زبائنها الذين بدؤوا يعتبرونها كأبنة لهم بل أكثر.

بين كل غرزة تخيطها في حذاء بالٍ، كانت نور تسترق النظر إلى أطفال المخيم وهم يلعبون بكرة مطاطية قديمة، كانوا يركضون، ويصرخون، يعيشون طفولتهم ولو لدقائق معدودة، سألتها: "بتحبي تلعبي معاهم؟"، نظرت إليّ بعينين تحملان شوقًا لطفولتها، وقالت بهدوء: "ما بحب أكون مصلحة أحذية... بحب أتعلم، بحب أرجع لبيتنا، وأكون مع أبوي."

 

أم اخواتها وخيط نجاتهم!

كانت نور تدرك أنها ليست مجرد أخت كبرى؛ بل هي أم وأب لإخوتها. عندما ينتهي يومها، يتحلق إخوتها حولها. نظراتهم مليئة بالاحترام، بكلمات قليلة أو بلا كلمات على الإطلاق، تقول بابتسامة متعبة: "بحب إخواتي... إذا مرضوا ما بعرف أنام، وإذا جاعوا، بحس أنا اللي جعت."

في كل غرزة حياكة، تروي نور حكاية منسية عن الحرب، والفقد، والمسؤولية، في كل نعل ممزق تصلحه، تستعيد جزءاً صغيراً من كرامة أسرتها المكلومة، إنها ليست مصلحة أحذية؛ إنها حلم مؤجل، قلب نابض بالحنين، هي الطفولة التي انتزعتها الحرب لتضعها في مكان لا تنتمي إليه.

نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 7.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 6.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 5.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 4.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 3.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 1.jpg


نور يونس العمايرة طفلة تعمل في مهنة السكافي .. خياطة أحذية 2.jpg