بمهارةٍ عاليةٍ وحركةٍ مرنةٍ، تَنقُل "نهاد المصري" أقراصَ العجين دائرية الشكل، من الفرش الخشبي الموضوع أمامها، لتُدخلها بعناية إلى فرن طيني يعلو من فوهته اللهب؛ فيغمرها بحرارته المشتعلة؛ وتصير خبزاً ناضجاً شهياً، تفوح منه رائحة الكفاح وعبق الماضي.
داخل الفرن، تُقلِّب “نهاد” تلك الأقراص وتُقرِّبُها بواسطة ”المصناع” -وهو قطعة حديد نحيفة معكوفة من المقبض، ومتوسطة الطول، تستخدمه النساء في تحريك أقراص العجين في الفرن-، بينما يجلس ابنها “محمد” عند قمة الفرن، ويعاونها في إيقاده والحفاظ على ديمومة اشتعاله من خلال تزويده بالخشب الذي جمعه من تحت أنقاض منزلهم المدمر، أو “الجفت” الذي يشترونه من معاصر الزيتون.
"نهاد خليل المصري" (56 عاماً)، من مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، شيَّدت فرناً طينياً صغيراً، أطلقت عليه "فرن الهنا"، في خيمة من الصفيح وألواح “الزينكو” أقامتها على أنقاض منزلها الذي دمَّره الاحتلال، واتخذت منه مصدراً أساسياً للرزق من خلال خَبْز الأرغفة والمعجنات، وبيعها؛ سعياً منها لإعالة أسرتها، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها بسبب استمرار حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال “الإسرائيلي” على قطاع غزة لليوم 435 على التوالي.
فكرةُ "فرن الهنا" جاءت عقب نزوحها وأسرتها من منطقة جورة اللوت إلى منطقة البحر في مواصي مدينة خانيونس جنوبي قطاع غزة، أوائل شهر ديسمبر من العام الماضي، لكن تلك الرحلة لم تكن ورديةً ألبتة، بل على العكس من ذلك، فقد أُصيبت السيدة الخمسينية بأمراض البرد الناتجة عن هطول الأمطار بغزارة، وسوء التغذية، وتفاقمت هناك أوضاعهم المعيشية وزادت صعوبتها، ما دفعها للتفكير في عدة مشاريع صغيرة تعتاش منها، لتستقر في النهاية على فكرة الفرن الطيني، في البداية بدأت بخَبْز أرغفة "الصاج"، والتي لاقت إقبال النازحين واستحسانهم؛ نظراً لجودة خَبْزِها وتمكنها.
بعد عودتها، صُعقت السيدة الخمسينية "أم صخر" من رؤية منزلها الذي سُوِّي بالأرض جراء تدميره بالطيران الحربي خلال توغل الاحتلال برياً في المنطقة، وتحوَّل من منزل يُعيل أكثر من 50 شخصاً إلى كومة من الحطام، حيث اصطفت طبقات المنزل الثلاث فوق بعضها، عدا عن انقسام سقف الطبقة الأولى إلى نصفين مُشَكِّلاً ما يُشبه بالكهف أو الكوخ يُوصلك إلى غرفةٍ واحدةٍ سَلِمت جدرانها المهشمة من الوقوع الفوري لكنها قابلة لذلك في أي وقت، وهو ما يُشكِّل خطراً مُحدِقاً وكارثةً كبرى لو حصل.
تقول لمراسل "شمس نيوز"، الذي عاين المكان: "رغم كل هذا الخطر نضطر للسكن في تلك الغرفة، وقام أولادي ببناء خيمة من الزينكو حول منزلي المدمر لكي يتسع نوعاً ما لنا".
وعلى الرغم من فقد منزلها، إلا أن المرأة الخمسينية تُظهر صبراً يعقوبياً فريداً، فتقول: "لستُ أبكي على بيتي أو كومة من الحجارة، فتلك أمورٌ تتعوض، ولكنني أبكي على شبابنا الذين استشهدوا واعتقلوا، وأطفالنا الذين تيتموا، وبناتنا اللواتي ترملن، والأعمار التي انطفأت في عز شبابها، والأسر التي أُبيدت بأكملها".
بالعودة إلى مشروع "فرن الهنا"، لا يقتصر عمل "أم صخر" على خَبزِ الأرغفة فقط، بل يشمل خبز المعجنات الشهية، كفطائر الجبن ومناقيش الزعتر اللذيذة، والحلويات بأنواعها مثل الكيك والمعمول والقرشلة وغيرها، بأسعارٍ مُناسبة وتُراعي صعوبة الوضع الاقتصادي لأهالي المنطقة، "5 أرغفة بشيكل واحد"، وأما مَن لا يَملك ثمن الخَبز، فتخبزه "نهاد" بشكلٍ مجاني؛ ليُشكِّل فرنُها إلى جانب كونه مصدراً للرزقِ، باباً للتكافل الاجتماعي وتجسيد قيمة الإيثار في أشد الأزمات.
لمتابعة آخر المستجدات الميدانية والسياسية للحرب على غزة اشترك بقناة شمس نيوز على منصة تيلجرام
لكنَّ تدمير البيت ورحلة النزوح، ليسا هما العائقان الوحيدان اللذان واجها "نهاد" التي تكافح لاستمرار مصدر رزق عائلتها الوحيد، بل إن ارتفاع ثمن الخشب والجفت، اللذان تستخدمهما لإيقاد النار في فرنها، عائقان كبيران أمامها، فقد وصل سعر كيس الجفت إلى (35 شيكلاً)، وهو مبلغٌ باهظٌ بالنسبة لها، عدا عن أن ذلك يؤدي لاستغراق وقت أطول لنضوج المخبوزات، والأخطر من ذلك كله إصابتها بأمراض الجهاز التنفسي بسبب الدخان الناجم عن الاحتراق.
ولفرن "الهنا" من اسمه نصيبٌ، حيث تجد الابتسامة مرسومة على مُحيَّى النساء اللواتي جئنَ برفقة أطفالهن الصغار، لخَبزِ مخبوزاتهن المختلفة، تقول إحداهن، وهي تتناول فطيرة زعتر ساخنة خرجت للتو من الفرن: "تمتلك السيدة أم صخر ذوقاً جميلاً ومهارةً عاليةً في الخبز، كما أن نَفَسَهَا الطيِّب يُعطي طعماً شهياً للمأكولات".
وتأمل "أم صخر" في وضع حد للعدوان الغاشم بأسرع وقت، ووقف المجازر بحق أهالي قطاع غزة، مؤكدةً صمودها وثباتها على أرضها، رغم كل محاولات التهجير الذي يحاول الاحتلال تنفيذها؛ لإفراغ الأرض من أصحابها، "حتى لو أكملتُ حياتي كلها بخيمة لن أترك وطني وأرضي".