لماذا فشل الكثير من المعارضات العربية في التصدي للأنظمة الفاشية التي ثارت عليها الشعوب؟ لماذا لم تستطع قيادة الثورات وتنظيم صفوف الشعوب الثائرة كي تنجز تطلعاتها وأحلامها في وقت أقصر، بدلاً من تركها تواجه أعتى الترسانات العسكرية الوحشية لوحدها كما في سوريا وغيرها؟ لماذا نجد صفوف الأنظمة الديكتاتورية التي تواجه الثورات أكثر تماسكاً من صفوف المعارضات ؟ لماذا تحول الكثير من المعارضات إلى عشائر وقبائل متناحرة أثناء الثورات وبعدها؟ لماذا لم تستطع أن توحد صفوفها لمواجهة أنظمة الطغيان والاستبداد وفلولها الساقطة والمتساقطة؟
الجواب بسيط جداً: لأن الكثير من المعارضات تحمل أمراض الأنظمة الطغيانية نفسها. فلا ننسى أن المعارضات المزعومة، وخاصة السورية، هي، في نهاية المطاف، نتاج الأنظمة السياسية والتربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية لتلك الحكومات الديكتاتورية. ومن عادة الحمار أن يلد جحشاً، فيصبح لاحقاً حماراً كامل الأوصاف. ومن عادة الكلب أن يلد جرواً يصبح كلباً. ومن عادة النمر أن يلد نمراً. وهلم جرّا. لا يمكن أن يلد الثور حصاناً أصيلاً. وكذلك الأمر بالنسبة للمعارضات، فهي في المحصلة النهائية مصنوعاً نظامياً.
لا عجب إذاً أنها الآن فقدت شعبيتها ومصداقيتها، وخاصة في سوريا. ونحن لا نتحدث هنا عن أحزاب المعارضة التي تنشط من داخل أقبية المخابرات في سوريا، فتلك مفضوحة ومكشوفة وليست بحاجة للفضح، لأنها من تأليف وإخراج الفروع الأمنية، وهي ملكية أكثر من الملك، لا بل إن أحد رموزها «المعارصين» الكبار ألف كتاباً بعنوان «الأسدية» يتغزل فيه بشبق شديد وشهوانية منقطعة النظير بـ»القائد التاريخي» حافظ الأسد إلى حد يخجل منه حتى حافظ نفسه، لكثرة ما فيه من تملق ونفاق وتذلل. بل نحن نتحدث هنا عن تلك المعارضات الخارجية التي من المفترض أنها تحررت من سياط المخابرات في الداخل، وأصبحت حرة وقادرة على ممارسة أبسط أساسيات الديمقراطية والحرية. لكنه، على العكس، ما زالت أسيرة الممارسات الاستبدادية التي تربت عليـــها قبل توجهها إلى الخارج.
عندما تنظر إلى بعض جماعات المعارضة تجد أنها عبارة عن ملل ونحل متناحرة، لا بل شراذم وعصابات، لأنها تعتبر نفسها أفضل من الجميع. يعني هي وبس والباقي خس، تماماً كما يفكر النظام الفاشي الذي أنتجها. فكما أن النظام يعتبر نفسه قطعاً نادراً لا يمكن أن يجود الزمان بمثله، فإن معظم فصائل المعارضة تفكر بالعقلية نفسها. وبالتالي، بدل أن تهتدي بالوصفة الديمقراطية القائمة على قبول الآخر والتعاون معه من أجل المصلحة العامة، فهي تتناحر «كديوك الخُم». لا عجب أن يتساءل البعض: هل يحتاج النظام السوري إلى مؤيدين بوجود هكذا معارضين يجعلون الشعب يترحم على الديكتاتورية؟
لو كانت هناك معارضة سورية حقيقية لا تتنافس على القشور، ولا ترهن نفسها للقاصي والداني، ولا تتصارع كالأطفال الصغار، لكانت وفرت على الشعب السوري الكثير من المتاعب والمصاعب والكوارث. صحيح أن أمريكا لم تساعد المعارضة السورية، كما فعلت مع العراقية، لكن حتى لو ساعدتها، لكانت لدينا الآن صورة طبق الأصل عن المعارضة التي وصلت إلى الحكم في العراق، فهي جعلت العراقيين يترحمون على أيام صدام حسين، فبينما كان في العراق صدام واحد، وعدي واحد، وقصي واحد، صار الآن في العراق مئات الصدّامات والعُديّات والقـُصيّات بفضل المعارصين الذين وصلوا إلى السلطة على ظهور الدبابات الأمريكية، ثم راحوا يتناحرون على أشلاء العراق.
إذا أردت أن تتعرف على عقلية المعارضات السورية مثلاً، ما عليك إلا أن تنظر إلى موقفها من الرأي الآخر، وكيف تقوم بتخوين وإقصاء كل من يقف في طريقها أو يعارضها. وهي مثل النظام الذي أنتجها، لا تقبل إلا بتسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالمائة من الكعكة.
ذات يوم قام أحد أعتى أنصار الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بتأليف كتاب حول مسيرة الرئيس. وأثناء وجود الكاتب في إحدى «المضافات» سأله أحد الحاضرين: «وهل أنت مقتنع بكل كلمة قلتها في الكتاب يا دكتور «فايز»، فأجاب الدكتور: «أنا مقتنع بتسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالمائة مما قلته في الكتاب عن مسيرة السيد الرئيس.»، فرد السائل: «يعني أنت لست مقتنعاً مائة بالمائة»، وهنا أُسقط الدكتور فايز في يده، وتلعثم، وشعر أنه أخطأ خطيئة العمر، فكيف يتجرأ ويقول إنه مقتنع فقط بتسعة وتسعين فاصلة تسعة وتسعين بالمائة مما قاله عن السيد الرئيس؟ وفعلاً، بعد تلك الحادثة، تم تسريح الدكتور من وظيفته وتجريده من امتيازاته وسيارته. لماذا؟ لأنه انتقص فقط ذرة طحين واحدة من المائة.
هل يختلف الكثير من المعارصين والثورجيين السوريين في موضوع الاستبداد بالرأي والموقف من الآخرين واحتكار الحقيقة؟ بالطبع لا. وسأسوق لكم حادثة حصلت معي في الأسبوع الماضي، فمنذ أربع سنوات وأنا أقدم حلقات عن الثورة السورية لم أترك ثائراً سورياً ولا معارضاً لنظام الأسد من كل الأحجام والمقاسات إلا واستضفته. مئات الحلقات كلها كانت في صالح الثورة. وعندما استضفت شخصاً الأسبوع الماضي لمناقشة موضوع «داعش» بالرأي والرأي الآخر، ثارت ثائرة المعارصين والثورجيين السوريين، وراحوا يوزعون الاتهامات والتهم والتخوين لي يميناً وشمالاً، فقط لأن شخصاً دافع في الحلقة عن «داعش» في مواجهة شخص آخر مسح الأرض به.
سؤال لهؤلاء الثورجيين: كيف تختلفون أنتم عن نظام بشار الاسد الذي لا يريد سماع إلا صوته وصوت مخابراته وأبواقه، ولتذهب بقية أصوات السوريين في ستين ألف داهية؟ هل يُعقل أنكم نسيتم مئات الحلقات التي شاركتم فيها أيها المعارضون، وتذكرتم فقط حلقة يتيمة عن «داعش»؟ والسؤال الآخر: كيف تختلفون أنتم عن «داعش» التكفيرية الظلامية الاستبدادية الإقصائية الإرهابية التي تقصي كل الآراء المخالفة لها، وتكفرها، وترجم أصحابها؟ ألستم داعشيين بامتياز عندما تثور ثائرتكم لمجرد سماع مجرد رأي آخر من فصيل آخر على الساحة السورية، حتى لو كان داعشياً ظلامياً؟ كيف ستتصرفون مع مخالفيكم ومعارضيكم فيما لو، لا سمح الله، وصلتم إلى السلطة بهذه العقلية الإقصائية؟ هل ثار الشعب ليستبدل حماراً ببغل؟
صدق من قال: هذا الجرو من ذاك الكلب.
المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه