يحتضن المسن عدلي عسلية أحفاده الثمانية الأيتام في خيمة مهترئة على شاطئ ميناء غزة، يبتسم تارة ويبكي تارة أخرى، تدور عينيه المحمرتين حول الأطفال، ليقول: "لقد تعاهدنا وعقدنا اتفاقا على أن لا نترك مدينة غزة وننزح إلى الجنوب".
عسلية (60 عاما) من مخيم جباليا شمال قطاع غزة نزح في بداية حرب الإبادة جنوب القطاع، واستشهد له 5 أبناء وعدد من أزواج بناته، ليعيل 24 شخصا منهم 8 أطفال أيتام.
دمر منزل عسلية بالكامل بعد تنصل إسرائيل من اتفاق وقف إطلاق النار والعودة لحرب الإبادة الجماعية ضد سكان القطاع، فاضطر للنزوح تحت اشتداد القصف وكثافة النيران للنزوح تجاه ميناء غزة.
نصب عسلية خيمته التي حصل عليها بصعوبة بالغة على لسان ميناء غزة، يقول لمراسل "شمس نيوز": "لم أجدُ أي خيار أو أي مكان فارغ أوي إليه في غزة سوى لسان الميناء".
اضطر عسلية للعيش مع 24 فردا من أسرته في ميناء غزة وسط آلام كبيرة لا يعرفها سوى من عايشها، يشير بحزن: "نعيش ظروفا صعبة حرارة الصيف المرتفعة والرطوبة العالية وما تنتجه من أمراض وحساسية على أجساد الأطفال".
يعاني عسلية كغيره من العائلات التي تتخذ من ميناء غزة ملجأ يأويهم من القصف الإسرائيلي، إذ يقول: "مياه الشرب تشكل أزمة كبيرة لنا، فاقطع حوالي كيلو ونصف لتعبئة جالون من المياه العذبة"، ونظرا لكبر سنه يشير إلى أنه يحتاج لأكثر من نصف ساعة في طريق العودة للخيمة.
فجأة وقف عسلية مسرعا صوب وتد خيمته وأمسكه بقوة وبدأ يطرقه لتثبيت الخيمة بشكل جيد أمام شدة الرياح، وهنا عاد لحديثه قائلاً: "أنا لا أخشى الحرب والقصف والدمار بقدر ما أخشى فصل الشتاء القادم حيث الرياح وارتفاع مستوى الماء".
وعن تهديد اسرائيل باحتلال مدينة غزة وفرض النزوح جنوب القطاع، أكد عسلية أنه لن ينزح مطلقا "جربتُ النزوح ولن أكرر غلطتي، صحيح أن أرض الجنوب من تراب فلسطين لكن لن أترك الأرض التي ولدت فيها وترعرعت فيها ابدا".
أدار عسلية وجهه إلى الخلف، ونظر لعيون الأطفال الأيتام بحزن شديد، فيما ترك لسانه يردد: "جلست مع كل أفراد الأسرة ال24 وتعاهدنا مع بعضنا البعض على عدم النزوح جنوبا حتى لو وصلت الدبابة إلى ميناء غزة، ووقفت فوق أجسادنا".
وعن الأسباب التي دفعته لإزالة فكرة النزوح قال: "هناك أسباب كثيرة أولها وأهمها عدم توفر الأموال سواء لنقل الخيمة والعفش، أو تأسيس خيمة جديدة في الجنوب، بينما السبب الأخر عدم توفر مكان في الجنوب".
وأرجع عسلية السبب لعدم توفر المكان لاستغلال بعض اصحاب الأراضي في الجنوب لحاجة النازحين، فأي شخص عليه أن يستأجر أرض بمساحة تكفي لخيمة وذلك بمبلغ لا يقل عن 400 شيكل شهريا دون خدمات".
ويعتقد عسلية وفقا لروايته لمراسل "شمس نيوز" بأن أي عملية نزوح من غزة إلى جنوب القطاع تكلف بالحد الأدنى نحو 500 دولار.
ونظرا للأسباب السابقة التي يعاني منها كل سكان مدينة غزة، قرر عسلية باجماع عائلته البقاء في غزة، قائلاً: "مستحيل اطلع، الواحد تعب، بنموت في غزة وما ننزح".
وفي السياق أشارت صحيفة معاريف الإسرائيلية، إلى أن غالبية السكان في مدينة غزة لن يتركوا أماكنهم خشية تهجيرهم وعدم عودتهم لبيوتهم مجدداً، وبسبب الإرهاق والتعب والخوف من المجهول سيصارعون للبقاء.
ووفقا للتقديرات التي نشرتها صحيفة معاريف، فإن أعداد السكان الذين قرروا إخلاء غزة غير واضحة؛ لأن مؤشرات الإعلان عن إنتهاء الحرب أقوى من أي وقت سبق.
ونشر جيش الاحتلال خرائطٌ حدد فيها أماكن فارغة لنزوح السكان إلى جنوب قطاع غزة، قبل الانتقال للمرحلة التالية من الحرب على مدينة غزة.
وهدد جيش الاحتلال بأن إخلاء مدينة غزة لا مفر منه، زاعما أن كل عائلة تنتقل إلى الجنوب ستحصل على المساعدات الإنسانية التي جاري العمل عليها في هذه الأيام.
وكانت صحيفة هآرتس العبرية، كشفت نقلاً عن خبيرَي الخرائط "عدي بن نون" من الجامعة العبرية والبروفيسور "يعكوف غارب" من جامعة بن غوريون، أنّ بعض المناطق التي أعلنها جيش الاحتلال كمخصصة لنزوح سكان شمال قطاع غزة، تقع أصلاً ضمن مناطق حدّدها الجيش نفسه في خرائطه على أنها "مناطق خطرة" غير صالحة لوجود المدنيين، حيث ظهرت باللون الأحمر في خريطته الأخيرة.
وأظهر تحليل أجراه البروفيسور غارب أنّ من بين 19 "كتلة" حددها الجيش، فإن 6 كتل تقع كلياً أو جزئياً خارج المناطق المسموح بها، ما يفضح التناقض في تصريحات الاحتلال.
وبحسب التحليل ذاته، فإن المساحة المتاحة فعلياً للنازحين لا تتجاوز نحو 7 كيلومترات مربعة فقط، وهي مساحة صغيرة جداً قياساً بحاجات مئات آلاف السكان. كما أن هذه المساحات ليست فارغة بالكامل، إذ تحتوي على أراضٍ وعرة وكثبان رملية وطرق قد تغمرها الأمطار، إلى جانب خيام قائمة أصلاً للنازحين.
وأكدت المنظمات الإنسانية في القطاع أن أي عملية إخلاء جديدة ستؤدي إلى كارثة إنسانية مضاعفة، نظراً لأن معظم السكان نزحوا بالفعل مرات عدة، ويفتقرون إلى الإمكانات المادية والجسدية والنفسية للنزوح مجدداً.
