بقلم: رياض مسيبلي
حسنًا، فلأبدأ مقالي هذا بالقول بأنني عندما شرعت في كتابته كنت أدير أصابعي على الطاولة التي أمامي حاسبًا بأنّ أصابعي تتحسس لوح المفاتيح. وتنبّه يا قارئي الكريم أنك تقرأ ما أكتبه وبيني وبينك شاشة صامتة؛ شاشة جعلت منّي ضيفًا عليك وجعلت منك حاكمًا على نصوصي (كتّاب آخر زمن). كلانا يا صديقي يحسب أنّه يتطلّع إلى الآخر خلال هذا الكم الهائل من التقنية الحديثة. فهل حقا نحن من نتطلّع في الآيفون، على سبيل المثال، أو هو الذي يتطلّع فينا؟ (ومرة أخرى تتسلل أصابعي إلى الطاولة اللعينة).
فإن كانت لدى أحدنا صفحة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي فقد أصبح كتابًا مفتوحًا. فإن كان مشتركًا في أكثر من موقع فقد صار (كابينة عامة) (على الذين يعلمون النكتة المشهورة أن يحسنوا الظن وليعلموا بخبث قلوبهم). أصبح من يزورك على صفحتك يعلم أي هوايات تمارسها، وأي أكلات تحشو بها بطنك، وأي موسيقى تتصيّع بسماعها ليلًا ونهارًا، وأي الكتب محببة إليك (اعتبر الأخيرة من سذاجات الكتّاب). إذن، بعد كل هذه الفضائح أما نزال مقتنعين بأنّنا حقًا نتطلّع في هذه الأجهزة اللعينة أم أننا صرنا آلات بيد آلات!
يخرج الأدب والفن عادة ليكشف ما استتر في حياة الناس؛ فهل كانت رواية كافكا (المسخ) سوى تصوير لشقاء الإنسان في بداية القرن العشرين. وفي ثمانينيات القرن الماضي أظهر جيمس كاميرون في فيلم (المبيد) الآلة مدمرة وربما منتقمة من البشرية. وعندنا في الأدب العربي لاحظ الشاعر الفذ “علي الدميني” بذكاء أنّ رواية الراحل غازي القصيبي (العصفورية) تناولت خيبة جيل التغيير والنهضة في وطننا العربي لتصوّر حياتنا خلطة من الجنون في مستشفى للأمراض النفسية.
في سنة 2008، نشر الكاتب نيكولاس كار مقالة أثارت كثيرًا من النقاش في مجلة أتلانتيك بعنوان: هل يجعلنا قوقل أغبياء؟ طورها كار بعد ذلك لتصبح كتابه الممتاز:
The Shallows; What the Internet Is Doing to Our Brains
ناقش كار آثار الإنترنت على عقولنا وحجم التغيير الذي أدخله علينا الإنترنت في حياتنا. عرض كار في كتابه باختصار لتاريخ الكتابة وآثارها في تاريخ البشرية، كما لخص دراسات علمية عن (مطواعية الدماغ البشري) في ظل الاكتشافات العلمية الحديثة. انصبت ملاحظات كار على غياب التركيز عند مستخدم الإنترنت مقابل التدبّر التي نكتسبه عند قراءة الكتب. وبالنسبة لي لم يعد الإنترنت كما كان بعد قراءة هذا الكتاب.
إنّ أكبر مشكلة نواجهها مع التقنية هي أننا مجرد مستهلكين لها؛ لم نصنعها ولم نساير تطوّرها. وهكذا يفاجأ أمثالي ممّن عاش (ما قبل التقنية) ثم أدرك الجنون بابتكارات تتوالى دون أن نستوعب ما سبق منها. تتكاثر مواقع التواصل الاجتماعي (وهذه تسمية لا روح فيها) لتفقدنا أصواتنا الإنسانية. تغادرنا تلك الحميمية التي كانت تتسلل إلينا عبر صوت قريب أو حبيب، عبر لقاء نرى فيه وجوه من نعرفهم قبل أن تحجز باهتة جامدة في ألبوم الصور أو تحت معرّفاتهم. حروف صمّاء تسافر فيما بيننا في أتراحنا وأفراحنا. رسالة تعزية أو تهنئة نرسلها دون مبالاة عبر وسائل ليس فيها رائحة إنسانيتنا. تمر علينا آلاف الصور ممتزجة بأكوام من المعلومات والكثير من الكذب والدماء، لتتبلّد مشاعرنا فنغدو بعدها مسخًا أسوأ من مسخ كافكا البائس. فقدنا الشعور بالزمان وبالمكان؛ لم نعد نعانق شمسًا ولا نستأنس بليل. نحدّق إلى هواتفنا لنرى خساراتنا الباذخة للأوقات. نلجأ إلى تطبيقات هواتفنا اللعينة لنتبيّن متاهاتنا في الأمكنة. نرى الجمال فنسارع إلى اعتقاله وراء شاشات صمّاء. ولم يعد (الربيع الطلق يختال ضاحكًا)، ولا (خير جليس في الزمان كتاب).
مساكين أولئك الذين يحسبون أنّ بإمكانهم معانقة الكتب من وراء الصمت؛ لا وجود لشذى المداد ولا نعيم ملمس الأوراق. تصبح القراءة ضربًا من الصمت القاتل. حتى تلك الكتب التي تثير فينا الغضب وربما الاشمئزاز فكنا نعاقبها بتمزيق صفحة أو صفحتين لإثبات حرّيتنا المهترئة، أصبحت تضحك منّا ملء صفحاتها من وراء زجاج صار أثمن من قلوبنا. حرمنا من صرير الأقلام وسفرها على صفحات نالت إعجابنا. ومن يحمل قلمًا في جيبه اليوم يدرس كما تدرس الديناصورات!
يغرق أحدنا في التيه إن خرج ناسيًا هاتفه (الذكي)؛ لأنّ غباءنا يبتكر لنا وجودنا خارج ذواتنا؛ يهتز قلب أحدنا حينها كما تهتز تطبيقات الآبل التي نريد دفنها.. فنفاجأ بعدها بأنّها تتوارى في قلب غيمة لا تعرف المطر. ولكن، يا لسخرية التقنية منا يا عزيزي القارئ؛ فها أنت تقرأ حروفي وأكتب أنا بالمثل وكلانا قد توارى قلبه في أصابعه. ربما أغضبتك حروفي هذه، وأصابعك تلمس نهاية مقالتي هذه فتود لو أنّك مزّقتها شر ممزّق.
كن شجاعًا..
.. حطّم الشاشة.