بقلم: د.أحمد جميل عزم
الانتفاضة الفلسطينية الراهنة، من قبل مجموعات الشبان الذين يقومون بعمليات مقاومة فردية، أو يقومون بمواجهات محدودة مع الإسرائيليين حيث أمكنهم، توجه رسالة ضد أربع قوى نشأت في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال العشرين سنة الأخيرة. وهذه القوى ليست نقيضا للشباب المتحرك، وليست بالضرورة، من دون مشاريع ودوافع نبيلة ووطنية، بل وليست من دون استعداد للمواجهة، ولكنّ هناك نمط تفكير جديدا يتجاوزها.
أولى هذه القوى، هي السلطة الفلسطينية؛ ربما ليس بشخوصها وفصائلها، ولكن بتركيبتها ووظيفتها، بكونها مؤسسة بيروقراطية توظف الكوادر الشبابية والسياسية، وتقدم لهم فرص عمل، ولكن ضمن ضوابط أمنية وسياسية، ناجمة عن الاتفاقات السياسية. وما حدث في الشهرين الماضيين هو رسالة بأنّ ميكانزمات ومؤسسات "السلطة" لم تعد تحرك وتضبط حركة الشارع وتسيطر عليه، ولم تعد تجسد مشروع دولة أو استقلال مُرضيين للشارع وطنياً، ولم تعد هناك قناعة بأدوات ووسائل عملها، ولا تشكل عامل جذب شخصي للشبان الجدد. وبطبيعة الحال، فإنّ الهبة الحالية تعمق أزمة منظمة التحرير الفلسطينية، وحقيقة أنّها تعاني من عدم التجدد وضم الأجيال الجديدة.
القوة الثانية، هي بُنى ما بعد "أوسلو" الاقتصادية والاجتماعية؛ من مشاريع اقتصادية وشركات، وحتى، أو ربما بالأخص المنظمات غير الحكومية (NGOs). فهذه التي يفترض، بحسب تفكير وتخطيط المانحين والمستثمرين، أن ترسم معالم المستقبل وتحدده، فقدت تدريجياً دورها. وكثير جدا من هذه المنظمات/ الجمعيات راجعت خطط عملها وتوجهاتها وحتى تمويلها في السنوات الأخيرة، وحاولت تطوير تصور أكثر واقعية، يأخذ بعين الاعتبار الاحتلال وسياساته، والصراع ومتطلباته، بعيدا عن أوهام السلام التي وصلت حد التطبيع الممول غربياً في الماضي.
القوة الثالثة، هي قوة سعت بقوة وإخلاص إلى فرض واقع جديد يتجاوز الانقسام السياسي الفلسطيني، ويتجاوز حالة عجز الفصائل، وأخذت شكل الحراكات الشبابية التي برزت للواجهة نحو العام 2011، لكنها سرعان ما وقعت في ذات أمراض الفصائل؛ من انقسام وخلافات وتشوش، وعدم قدرة على تطوير برامج، وشخصانية، وتنافس. وبحسب مشاركين قياديين في تلك الحراكات، فقد انتهت الآن ولم تعد موجودة بشكل منظم حقيقي، وبدلا منها تبرز من حين لآخر نشاطات شبابية، أي مجموعات تقوم بنشاط لمرة واحدة، أو تتفاعل مع أحداث معينة، من دون طموح بأن تتحول لقوة سياسية حقيقية وفعلية.
أمّا القوة الرابعة، فهي لجان المقاومة الشعبية، خصوصاً التي عملت في الريف الفلسطيني، لمناهضة الجدار والاستيطان. وهذه اللجان أسهمت كثيراً في سد فراغ معين في العمل الوطني، وقامت بإنجازات مهمة، وتحملت عبئا مهما في المرحلة السابقة. لكنها عانت من عدم الاحتضان الشعبي لها، ومن عدم تمكنها من تحريك الجمهور خلفها. ولعلها نجحت في مد خيوط دولية وعالمية، أكثر مما نجحت في مد خيوط وطنية. وتعرضت لمحاولات وعمليات احتواء من الفصائل والسلطة الفلسطينية. وبدا مؤخرا أنها فقدت كثيراً من زخمها، رغم الاحترام الشعبي لها، ولكنه احترام سلبي لم يصل لدرجة التفاعل الإيجابي، والانخراط معها.
بوجود جيل جديد، وهبات ومقاومة من الشكل القديم الذي يقوم على المواجهة والانتفاض، بدا أن هذه القوى والمجموعات الأربع مدعوة، وبقوة الآن، لمراجعة حساباتها وطريقة عملها.
إن لم تنجح هذه القوى، أو ما بقي منها، في ترتيب صفوفها وحسم خياراتها وتعبئتها، في إطار برنامج عمل وطني متكامل شعبي، سيكون الشعب الفلسطيني في مأزق، وسيكون هذا تخليا عن الشباب الذي يقوم بالتضحية والمواجهة. ولكن سيكون هذا الإخفاق على مستوى هذه المجموعات التي يمكن تسميتها بالنخب المثقفة والبيروقراطية والاجتماعية والأكاديمية والسياسية، مدخلا لإبراز الحاجة (والتحفيز) لبروز نخب جديدة.
كما أنّ الشباب المنتفض في الشارع يشكل قوى جديدة، رافضة للانتظار؛ سواء انتظار المفاوضات، أو انتظار حل الأزمات الحياتية والمالية، ورافضة أيضا لأساليب ووسائل عمل القوى الأخرى، فإنّ البنى الفوقية في المجتمع لا يمكن أن تبقى في حالتها العاجزة والساكنة الراهنة.