فرانسوا أولاند لم يتردد في إعلان حالة الطوارئ ولم يعترض عليه أحد، وبعد ذلك مباشرة طلب رئيس وزرائه مانويل فانس مد حالة الطوارئ ثلاثة أشهر إضافية تنتهي أوائل العام المقبل. وأيضا لم يعترض أحد.. وقوات الشرطة حصلت على سلطات واسعة تمكنها من التحرك بحرية واعتقال المشتبه بهم وصدرت الأوامر لأفراد الشرطة بإطلاق النار فورا على أي مشتبه به يحمل سلاحا، دون أن تخرج أصوات من هنا وهناك تعترض على إجراءات قمعية أو دولة بوليسية وتدافع عن حقوق المتهمين حتى وإن كانوا إرهابيين..
قادة المعارضة والرؤساء السابقون كلهم كانوا على قلب رجل واحد، يدا بيد مع الرئيس أولاند في مواجهة الإرهاب متجاوزين أي خلاف أو آراء ضيقة.
مع احترام وجود رئيس يقرر وينفذ. حتى الدول الكبرى والمنظمات الدولية توقفت عن الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان، ولم تضع قيودا على الدولة الفرنسية تمنعها من أداء واجبها في حماية مواطنيها وأراضيها..
الدرس المستفاد هو لا محاربة للإرهاب ـ في ظل قوانين وسياسات وقرارات عادية. النص أعلاه ورد في افتتاحية جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضي (٢٠/١١) التي جاءت تعليقا على الإجراءات اتخذها الرئيس الفرنسي بعد المقتلة التي ارتكبها الإرهابيون في فرنسا يوم الجمعة قبل الماضي.
وكان واضحا أن التعقيب استخدم ما حدث في الخارج لتوجيه رسالة إلى الداخل، بعد ابتسار مع ما جرى في فرنسا وإلى حقائقه وتفاصيله.
وكانت خلاصة الرسالة الموجهة إلينا كالتالي: كفوا عن الحديث عن الحريات وحقوق الإنسان ولا تنتقدوا تجاوزات الشرطة أو قمعها ودعوا الرئيس يقرر وينفذ.
وحين حاولت أن أترجم الرسالة كما فهمتها فإنني وجدتها تقول للكافة اخرسوا.
ولا تصدعوا رؤوسنا بحكاية القانون والحريات وحقوق الإنسان، وطالما أن الرئيس يقرر وينفذ فالوطن بخير. الصورة التي قدمتها افتتاحية الأهرام.
التي أرجو أن تكون معبرة عن الجريدة فقط، مغلوطة في فكرتها وتفاصيلها وخطرة في مغزاها. إذ ليس صحيحا أن الرئيس الفرنسي ظل الشخصية المحورية فيما اتخذ من إجراءات. حتى قرار إعلان الطوارئ لمدة ١٢ يوما الذي يسمح له القانون بأن ينفرد بإصداره لمواجهة الخطر الذي يتهدد البلاد لم يتخذه إلا بعد التشاور مع رئيسي مجلس الشيوخ والنواب وكذلك رؤساء مختلف الأحزاب السياسية.
ومد الطوارئ بعد تلك الأيام الاثني عشر لا يتم إلا بناء على قانون أصدرته الجمعية الوطنية، التي حددت منتصف ليل ٢٥ فبراير المقبل موعدا لانتهاء الطوارئ. وليس صحيحا أن الرئيس أطلقت يده في التقرير والتنفيذ ولا أن الشرطة أطلقت يدها في ممارسة القمع.
ولا حقوق الإنسان طويت صفحتها وأهدرت، وإنما خضعت كل تلك الممارسات للقانون ولرقابة القضاء. خطورة الرسالة تتمثل في أنها استلهمت النصوص الفرعونية القديمة التي تحدثت عن محورية الملك الإله، حورس (الإله الصقر) أو إله الشمس رع الذي «تساعدنا أعماله على الحياة» وترافق اسمه شارات ترمز إلى «الحياة والصحة والقوة». وتلك الخطورة لا تكمن في مضمون الرسالة فحسب، وإنما في دلالتها وسياقها أيضا.
ذلك أن من يتابع ما تبثه وسائل الإعلام المصرية الموالية للرئيس يلاحظ أن لعنة تقديس الحاكم واضحة فيما يكتب ويقرأ. فمعارضته خيانة ونقد سياساته جريمة والصعوبات التي تواجهه مؤامرة.
ونصحه تطاول يتجاوز حدود اللياقة والأدب.. إلخ في أحسن الفروض فإن مثل هذه الأوصاف تعبر عن إفراط شديد في الحساسية ومؤشر على تزايد ضيق الصدر يعبر عنه الرئيس بلغة مهذبة أحيانا، ويترجمها الموالون والمؤسسة الأمنية إلى ممارسات تسيء إلى الرئيس وإلى نظامه، وتشيع حالة من البلبلة والقلق في المجال العام.
يرفع من وتيرة البلبلة والقلق أن تلك الممارسات والأوصاف حتى تطلق في الفضاء الإعلامي فإنها لا تخضع من جانب الجهات الرسمية لأي تصويب أو مراجعة أو حتى نفي تعبيرها عن الرئيس أو السلطة.
واستمرار ذلك الصمت يفسر بحسبانه قبولا وتأييدا. من ثَمَّ يتم التعامل مع تلك الاتهامات على أنها تعبر عن موقف السلطة وليست آراء محسوبة على أصحابها.
وقعت أخيرا على تقرير تحدث عن عودة النهج السوفييتي إلى روسيا الراهنة حيث يرى الحقوقيون أنه في ظله أصبح كل مواطن ناقدا كان أم معارضا خائنا إلى أن يثبت العكس. ووجدت أن المقدمات التي نلحظها في خطابنا الإعلامي تمهد للوصول إلى تلك المرحلة.
خصوصا أن إطلاق تهمة الخيانة صار متداولا بعدما كان البعض يستحون من استخدامه ويكتفون بالغمز في قناة من يريدون عبر اتهامهم بأنهم من «الطابور الخامس».
فحين طرح الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح رئيس حزب مصر القوية فكرة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، فإن الرد الوحيد على فكرته تمثل في اتهامه بالخيانة.
بل إن رئيس محكمة الجنايات وصف في حوار صحفي له من ينتقدون القضاة بأنهم خونة. إن شبح اقتباس النهج السوفييتي يلوح في الأفق بقوة هذه الأيام، الأمر الذي لا يطمئنا إلى ما ستأتي به الأيام القادمة.