يقسّم عالم النفس الشهير ابراهام ماسلو، حسب هرمه أو مثلثه الشهير بـ»مثلث ماسلو»، يقسّم احتياجات الإنسان إلى خمسة احتياجات أساسية على شكل تسلسل هرمي، ابتداء من قاعدة الهرم وانتهاء برأسه، أو قمته. ويقبع في أسفل الهرم احتياجات الإنسان الفيزيولوجية، ثم تليها الاحتياجات الأمنية، فالاجتماعية، فاحترام أو تقدير الذات، ثم في أعلى الهرم، يأتي تحقيق الذات. وهذا يعني أنه كلما تدنت الاحتياجات في موقعها من الهرم، تصبح، على أهميتها الحيوية، أقرب إلى الحاجات الحيوانية. ومن المعروف أن الحيوانات تحتاج فقط إرضاء متطلباتها الفيزيولوجية فقط.
ولو نظرنا إلى تاريخ الإنسان العربي على مدى نصف قرن أو أكثر من الزمان، أي منذ الاستقلال وتسلم ما يسمى بالأنظمة الوطنية مقاليد الحكم في البلاد، لوجدنا أنها حصرت اهتمامات الشعوب ضمن أسفل «مثلث ماسلو». بعبارة أخرى، فلم تهتم إلا بتأمين الحاجات الفيزيولوجية بالدرجة الأولى، ومن ثم الحاجات إلى الأمن والاستقرار. وبما أن كل الأنظمة العربية أنظمة أمنية مخابراتية بامتياز، فقد أهملت الاحتياجات الإنسانية العليا التي يتضمنها «مثلث ماسلو»، وركزت على الجانب الفيزيولوجي نسبياً، وكثفت اهتمامها بالجانب الأمني، لتصبح الحياة بالنسبة لملايين العرب مجرد أمن واستقرار، ولتذهب الحاجات الإنسانية الأسمى كاحترام الذات وتحقيقها أمراً ثانوياً بالنسبة لدولة المخابرات العربية.
لقد زرعت الأنظمة الأمنية الفاشية في عقول الشعوب وأذهانها وحتى في أعماقها فكرة أن الأمن الدائم هو أهم شيء في حياة الإنسان، ولتذهب بقية الحاجات إلى الجحيم، مع العلم أن «الأمن الدائم» شعار يصلح فقط لأبواب المقابر، فالسكون الدائم لا يحدث إلا في أماكن سكن الموتى. ومن المحزن أن الدولة الأمنية نجحت نجاحاً باهراً في إقناع الشعوب بأن الشعور بالأمان هو أهم هدف في الحياة، وما عداه لا قيمة له أبداً. لهذا نجد أن مجتمعاتنا تحولت إلى مستنقعات آسنة لا تتحرك فيها المياه أبداً، ففسدت وتعفنت. عجباً لأمة يقول دستورها القرآن الكريم: «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض»، عجباً لماذا ضحكت عليها الدولة الأمنية وحولتها إلى بلاد أشبه بالمقابر من حيث سكونها وخنوعها وتلذذها بالصمت والاستقرار المزعومين.
لقد أصبح الانسان العربي وبعد عقود من الترهيب والتخويف والتدجين، أصبح مهووساً بالأمن، إلى حد أنه مستعد للتخلي عن باقي احتياجاته الانسانية الأخرى والعيش على الكفاف مقابل أن يعيش بأمان. لا عجب أن تسمع الكثيرين بعد أحداث الربيع العربي التي هزت الاستقرار المفروض بالحديد والنار الذي كان يتمتع به الإنسان العربي، لا عجب أن تسمعهم يحنون إلى أيام الطغيان الخوالي، حيث كانت الناس تأكل وتشرب وتعيش بأمان، وكأن الحياة مجرد استهلاك حيواني للطعام والشراب بصمت وطمأنينة وراحة بال. وطبعاً طالما ظل الإنسان العربي يعتبر الأمن أهم من كل شيء في حياته، سيظل عبداً لمن يوفرون له الأمن، ويجردونه من باقي حرياته وحقوقه.
لا يمكن للإنسان أن يتطور دون المجازفة والمغامرة. ويقول وليام شَد: « السفن آمنة جداً وهي في المرفأ، لكن السفن لم تـُصنع كي تبقى في المرفأ». وكذلك الإنسان لم يُخلق كي يكون عبداً للأمن والأمان، بل لا بد من أن يناضل، ويتحدى ويقاوم، ويجازف كي يتقدم، كما فعلت كل الأمم الحية. ولو عرف الذباب أنه سيقع في شبكة العنكبوت لما طار. ولعلكم تذكرون أن الدول المتقدمة التي سبقتنا بسنوات ضوئية على كل الصعد تعلّم أبناءها كل أنواع الألعاب الخطرة والمغامرات العنيفة الرهيبة. ولو نظرتم إلى ألعاب «بلي ستيشن» و»أكس بوكس» لرأيتم أن الأمم الحية تحض أبناءها دائماً على المغامرة والمجازفة وحتى الاندفاع القاتل، لأنها تعمل بالمبدأ الأصيل الذي يقول: «في الحركة بركة» حتى لو كانت الحركة خطرة ومميتة.
وكي لا نظلم العرب جميعاً، لا بد أن نميز بين الثوار الذين أشعلوا فتيل الربيع العربي، وضحوا بكل ما يملكون كي يحركوا المياه الآسنة في أوطاننا، وهم قلة، وبين الذين ما زالوا يتحسرون على أيام العلف المخابراتي والعيش بأمان في ظل دولة الرعب والخوف. النوع الأخير من العرب يريد فقط أن يأكل، ويشرب، ويعيش بأمان بغض النظر عمن يحكمه. أما النوع الثاني وهو طليعة التحرر والتقدم فهو يريد أن يأكل، ويشرب، ويعيش بأمان، ويبدع، ويرتقي بحياته، ويحقق ذاته بحرية وكرامة، لا أن يكون مجرد مستهلك للعلف الذي يوفره له الحاكم مقابل سلب حريته وحقوقه وكرامته. إنه يريد أن يرتقي إلى أعلى هرم ماسلو المذكور آنفاً، لا أن يبقى قابعاً في أسفله خائفاً على علفه وأمنه وعبداً لغرائزه الحيوانية الأساسية. الفرق بين النوعين كالفرق بين القاع والقمة حيث الانسان في ذروة إنسانيته، وليس مجرد مستهلك للطعام على حساب الحرية والكرامة الانسانية التي تميز الانسان عن الحيوان.
أيها القابعون في أسفل مثلث ماسلو: ليس بالعلف والأمن وحدهما يحيا الإنسان. لماذا استمرأتم العيش في قاع القاع؟
صدق الرئيس الأمريكي بنجامين فرانكلين عندما قال: «من يُضحي بالحرية من أجل الأمن لا يستحق لا الأمن ولا الحرية». ونحن نضيف: من يضحي بالحرية والكرامة الإنسانية من أجل الخبز لا يستحق لا الخبز ولا الكرامة ولا الحرية.