محفوظ ولد خيري
تحتفظ ذاكرة التاريخ لهذه الأمة الإسلامية بتجربة جهادية فذة كان لها أبلغ الأثر في بسط رسالة الإسلام على مساحات شاسعة من الأرض في فترة قياسية من الزمان؛ وإذا ما أخذنا نموذجا لذلك الفترة النبوية التي تمثل مهاد التجربة الجهادية في الإسلام فسنجد أن النشاط الجهادي المسلح لهذه الفترة يتلخص في عقد واحد من الزمن قام فيه النبي صلى الله عليه وسلم بقيادة ثماني 8 معارك عسكرية، وشن ثماني عشرة 18 غارة، وبلغ مجموع عدد الغزوات 27 غزوة استغرقت 435 يوما، ومجموع عدد السرايا 77 سرية استغرقت 350 يوما، أُريق في جميع هذه الغزوات والسرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم أقل دمٍ عرِف في تاريخ الحروب والغزوات فلم يتجاوز عدد القتلى 1018 قتيلا من الفريقين، وكانت حاقنة لدماء لا يعلم عددها إلا الله، وموفرة على المجتمع البشري قدرًا كبيرًا من الوقت والجهد في تغيير الأحوال والأنظمة الفاسدة التي كانت منتشرة إذ ذاك ودرء الأخطار التي كانت تهدد النوع الإنساني بأكمله.
وبالنسبة إلى نجاح العمليات وسرعتها فقد استمر التوسع بنسبة 274 ميلا مربعًا للعام، ولم يخسر المسلمون فيها إلا بنسبة شخص واحد في الشهر وكانت أقصى خسائر الأعداء في النفوس 150 شخصًا للمعركة؛ فلما اكتملت السنوات العشر خضع أكثر من مليون ميل مربع للحكم الإسلامي الحنيف.
يأتي السر في تميز هذه العمليات الحربية كونها خاضعة لآداب خلقية وتعليمات رحيمة جعلتها أشبه بعملية التأديب منها بعملية التعذيب، وبهذه الروح الواعية لمبادئ الرحمة والإنسانية والمحققة لها في حياة الناس انطلق قادة الفتوح الإسلامية فمع مواجهتهم لأقوام استعبدوا الناس بالباطل، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد ، كان تطبيقهم العملي في ميادين الجهاد محافظًا لأرقى وأنبل الأخلاق في التعامل مع الأعداء والشنْآن، ولا عجب فالتوجيه القرآني في هذا السياق كان واضحا وصريحا حيث لم يستثن أحدا من الحق في العدل والمعاملة بإنصاف حتى العدو المباغض؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، ونستطيع أن نقدم دليلًا على ذلك من واقع التاريخ الإسلامي ومن تطبيقات الخلفاء الراشدين وهم خير سلف هذه الأمة وأصفاهم فهمًا لحقيقة ما قرره الإسلام من مبادئ.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف في جيش أسامة خطيبًا فقال: " أيها الناس، أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم شيئًا بعد الشيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا .. اندفعوا باسم الله " [تاريخ الطبري].
والاستشهاد بأقوال القادة وقت الحرب خير دليل على فهم هؤلاء القادة لمفهوم الحرب الأخلاقية، فقد يكون التعبير عن الأخلاق ومفاهيم الإنصاف والعدل في غير وقت اللقاء مع الأعداء مشوبًا بكثير من الادعاء والظهور في صورة مثالية، أما الوصية من القائد إلى جنده عند اللقاء، وامتثال الجند لمجموعة من المبادئ والقيم التي تمثل مفهوم النُّبل في أرقى صوره فهي الدليل القاطع على عمق هذا المفهوم وتأصله في النفوس، ومن هنا نقول إن القادة المسلمين يجعلون مبادئ الأخلاق وثيقة الارتباط بدينهم فلا تنازل عنها في أي وقت من الأوقات، وأن القتال في الإسلام ليس إلا تدعيمًا لأصل السلام والأمن العظيم الذي أسس الإسلام حياة الناس عليه، ولا أدل على استهداف هذا المبدأ النبيل في الجهاد الإسلامي من أن القرآن جعل تحقيق السلم حدا لنهاية الحرب؛ قال تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء: 90]، وقال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
ومن الناحية التفصيلية؛ فقد أمر القرآن بمعاملة الأسرى معاملة كريمة؛ وحَضَّ على إيثارهم بالطعام – وهو أحوج حاجيات الإنسان - حتى في أوقات العسرة، قال تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [الإنسان: 8]، وتطبيقا لهذه الآية ضرب المسلمون أروع الأمثلة في رعاية الأسرى فقد كان عزيز بن عمير وهو أسير يأكل أطايب الطعام، أما الذين أسروه فيأكلون التمر وما تبقى، وقد ضمن القرآن احترام العهود والمواثيق، والوفاء بها، وحرم الغدر والخيانة حتى في حق من ينكث العهد؛ قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، وحرم التمثيل بجثث القتلى من الأعداء، وهدم منازل المحاربين أو حرق محاصيلهم وزروعهم لغير مصلحة، ويتجلى أبرز مظاهر تميز الجانب الأخلاقي في تشريعات الحرب في الإسلام في أنه يأمر بدفع جثث قتلى العدو لهم إن طلبوها ويحرم أخذ ثمن في مقابلها؛ فقد روى ابن عباس رضي الله عنه قال: بعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشترون جيفة عمرو بن عبد ودّ بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو لكم لا نأكل ثمن الموتى» [أخرجه البيهقي، والترمذي]، بهذه الأخلاق السامية النبيلة قاد المسلمون الحروب وحققوا الفتوحات العظيمة والانتصارات الخارقة التي ما زال صدى ذكرها يجلجل التاريخ ويهز أركانه .