في الذكرى الثامنة والستين لنكبة فلسطين، والتي أصبح تاريخ 15 مايو/أيار من كل عام موعدا رسميا لإحياء ذكراها، تحل الذكرى في هذا العام على القدس وهي تئن من قسوة الاحتلال وسياسة التهويد لما تبقى منها.
ولم يكن تاريخ 11مايو/أيار 1949 عندما تم التصويت في الأمم المتحدة على الاعتراف بإسرائيل وعلى تقسيم فلسطين هو بداية النكبة في القدس وسائر فلسطين بل سبقت هذا التاريخ بعقود من الزمن سلسلة أحداث دموية أفضت إلى نكبة مكتملة الأركان في القدس.
فعلى سبيل المثال، ما زال العرب يستذكرون عام 1916 عندما انخرطوا في حرب على العثمانيين بالتنسيق مع بريطانيا، وسرعان ما غدرت بهم بريطانيا، فكانت "سايكس بيكو" وكان وعد بلفور عام 1917، وكان الدعم للهجرات اليهودية إلى فلسطين، وكانت هزيمة الدولة العثمانية التي حمت القدس قرونا من الزمن، وكان الانتداب البريطاني بمثابة احتلال لفلسطين، وكانت كلمات الجنرال اللينبي في ساحة عمر بن الخطاب على درجات قلعة القدس في باب الخليل لها وقع الصاعقة، إذ قال يومها وهو يعلن احتلال المدينة المقدسة، وهزيمة العثمانيين: "اليوم انتهت الحروب الصليبية..!"
وبدأت فصول المأساة تجد طريقها إلى القدس باعتبارها جوهر الصراع، ومن يحكمها يحكم سائر فلسطين.
ولم تجد بريطانيا "صديقة الدول العربية" أفضل من اليهودي هيربرت صموئيل ليكون مندوبا ساميا على القدس، ليسوم أهلها سوء العذاب، ويدفع باتجاه دعم العصابات الصهيونية الإرهابية بالمال والسلاح لأجل استكمال شروط النكبة المقبلة على المدينة، وكانت ثقافة الهزيمة قد انتشرت على نطاق واسع في البلاد العربية، حتى إن عميد الأدب العربي "المتفرنس" طه حسين كان من أوائل المهنئين بافتتاح الجامعة العبرية في القدس عام 1925.
وفي المقابل كانت جامعة الدول العربية قد خذلت المجاهدين المدافعين عن القدس بقيادة عبد القادر الحسيني، والذي وثق ذلك برسالة أرسلها للجامعة التي رفضت تقديم الدعم بالسلاح أو المال للمجاهدين، فكانت النتيجة استشهاد عبد القادر الحسيني ليلة 8 إبريل/نيسان 1948، ومن ثم سقوط حي القسطل (بوابة القدس الغربية) في قبضة العصابات الإرهابية الصهيونية، واندفاع هذه العصابات نحو أحياء القدس الغربية والغدر بسكان دير ياسين المجاورة بعد منتصف الليل بتاريخ 9إبريل/نيسان 1948 واقتراف مجزرة رهيبة بحق السكان وهم نيام، الأمر الذي جعل الإرهابي مناحيم بيغن يقول: لولا مجزرة دير ياسين ما قامت دولة إسرائيل!
دولة قامت من يومها على الدم والجماجم والأشلاء واستطاعت أن تدفع برجل (بيغن) مطلوب للعدالة الدولية إلى التتويج بجائزة نوبل للسلام.
وعلى إثر مذبحة دير ياسين، وما تلاها من هجوم كاسح على أحياء القدس، وبعد نفاذ الذخيرة والأسلحة من يد المدافعين عن المدينة تهاوت هذه الدفاعات، وخذلتها الجيوش العربية، فسقط في قبضة الاحتلال 38 حيا من أحياء المدينة وتم تهجير أهلها قسرا إلى الشطر الشرقي من المدينة، وإلى سائر الدول العربية الأخرى، وبذلك سيطرت العصابات الصهيونية على ما مجموعة 82% من مساحة القدس، في حين احتفظ المدافعون ومعهم وحدات من الجيش الأردني على ما مجموعه 18% من مساحة المدينة، بما في فيه البلدة القديمة في القدس والتي تحتوي على المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة والأماكن التاريخية الهامة.
ولم تستطيع الأنظمة العربية تجاوز مربع النكبة، بل عمقت الشعور بالألم ونشر ثقافة الهزيمة والاستسلام من خلال التركيز على أمن وحدود دولة الكيان الصهيوني الوليد في فلسطين، ومنع المقاتلين من مواجهة الصهاينة، بل وكتم أصوات الأحرار، وصولا إلى تعليق العلماء على أعواد المشانق في الديار المصرية التي كانت تتغنى بالشعارات الناصرية الفارغة من أي مضمون!
وعليه فلم تكن النتيجة بعد إثر ذلك سوى استكمال النكبة بنكبة مكتملة الأركان حلت بكامل فلسطين، وبالقدس على وجه الخصوص، حيث وقعت ما اصطلح على تسميتها بـ"النكسة" في الرابع من يونيو/حزيران عام 1967، ونتج عنها احتلال كامل فلسطين، بما فيها كامل القدس، ودخلت قوات الاحتلال إلى المسجد الأقصى المبارك حيث رفع جنود الاحتلال العلم الصهيوني على قبة الصخرة المشرفة.
وفي غضون أيام قليلة هدم الاحتلال حي المغاربة، وحي الشرف في القدس القديمة وهجر سكانهما مع آلاف آخرين مرة أخرى إلى مخيمات داخل الوطن وخارجه.
نكبة القدس وقعت بالتدريج وعلى مراحل وكان بالإمكان تلافيها، لولا وقوع جامعة الدول العربية تحت تأثير بريطانيا راعية المشروع الصهيوني في فلسطين، فكان من تداعيات نكبة القدس إعلان الاحتلال بأن كامل المدينة بشطريها الشرقي والغربي هي عاصمة لدولة إسرائيل الموحدة، والأمر الذي استجد في تعميق النكبة هو استمرار النظام العربي في حرب الشعارات والفرقة والخلافات، في الوقت الذي هدأت فيه الجبهات تماما، بل وتسابقت لاحقا الأنظمة إلى عقد اتفاقيات "سلام" مع الاحتلال.
ويلاحظ أن تداعيات النكبة في القدس قد أخذت منحى خطيرا، فقد وضع الاحتلال مدينة القدس في مرمى النار، تهويدا ومصادرة للأرض، وحربا على العمران والآثار والمقابر والمقدسات والاقتصاد والصحة والتعليم.. الخ، في الوقت الذي وافق فيه الفلسطينيون في اتفاقية أوسلو عام 1996 على وضع القدس على مفاوضات الحل النهائي! هذه المفاوضات التي أراد لها الاحتلال ألا تتحقق أبدا!
ويمكن القول إن نكبة القدس لم تتوقف فعليا منذ 100 عام وحتى يومنا هذا على الإطلاق، فهي مستمرة وإن بأشكال مختلفة وليس بالضرورة بالسلاح التقليدي وإطلاق النار.
إنها نكبة مستمرة من خلال المهندسين المخططين للمدينة وخاصة في مشروع ما يسمى "2020" وفي مصادرة كامل الشطر الغربي من أراضي المدينة وما مجموعه 34% من الشطر الشرقي منها، ووضع مخطط لا يبقى من خلاله سوى 12% من السكان على 11% من الأرض.
إنها حرب مستمرة من خلال ما يسمى ببلدية الاحتلال، ومن خلال ما يسمى بالكنيست، ومن خلال أجهزة الأمن ومن خلال المحاكم الظالمة، وأخيرا من خلال المنظمات الدينية اليهودية اليمينية المتطرفة مثل إلعاد وعطيرت كهونيم والتي لها علاقات وثيقة مع قرابة 1000 منظمة صهيونية حول العالم، واستطاعت جمع 17.4 مليار دولار لتهويد المدينة المقدسة، وتم توطين ما يزيد 250 ألف مستوطن يهودي في الشطر الشرقي من المدينة، في الوقت الذي بقيت فيه المدينة تنتظر الدعم العربي المنشود والذي لم يصلها منذ 68 عاما سوى اليسير جدا منه.
لقد أصبحت كل المناطق تتحدث عن ذكرى النكبة إلا أن القدس تعيش النكبة بشكل مستمر وعلى مدار الساعة، حتى باتت على شفى كارثة في كل مكوناتها وخاصة المسجد الأقصى المبارك المهدد بالتقسيم على مرأى العالم ومسمعه.
نكبة القدس ليست بفعل الاحتلال وحده بل بالصمت العربي والهوان الإسلامي والانقسام الفلسطيني، ولذا نجد أن الشعب الفلسطيني لم يبخل بما يملك في الدفاع ليس فقط عن المدينة المقدسة بل عن كرامة الأمة بكاملها.
ولذا تحل هذا العام 2016 ذكرى النكبة على فلسطين وهي تخوض انتفاضة القدس في وجه المحتلين، لتجدد مرة تلو المرة عهدها مع القدس بأن الحق لن يضيع، ولن ينساه الكبار ولا الصغار، إلى أن يتحقق الوعد وتتحرر القدس ويعود المشردون إلى ديارهم، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" {سورة يوسف، الآية 21}.