بقلم / أكرم عطا الله
كان الزعيم التاريخي للفلسطينيين ياسر عرفات في ذروة نشوته في تلك الليلة وهو يستقبل الصحافيين بعد عودته من افتتاح حقل الغاز الفلسطيني "مارينا"، رفع شارة النصر ورددها "الغاز الفلسطيني .. الغاز الفلسطيني.. الغاز الفلسطيني" بما يشبه شعار حركة فتح حتى النصر والذي يتردد ثلاث مرات، لا نعرف حينها هل اختلط عليه الأمر لحظة النشوة أم أنه اعتبر ذلك واحدة من بوابات النصر والاستقلال الاقتصادي واطمئنانه على أن شعب فلسطين ودولة فلسطين لن تجوع من بعده كما يفعل كل الآباء.
حسب التقارير، كان يمكن للفلسطينيين أن يحصلوا على عائد بين ستة إلى سبعة مليارات دولار سنويا لو بدأت حقول الغاز التي تم اكتشافها مع نهاية التسعينيات بالإنتاج .. وهذا الحق ليس مرتبطا بإسرائيل أو باتفاق معها وإلا لما وافقت على عطاءات التنقيب التي أجازتها السلطة الفلسطينية لشركات التنقيب أواسط التسعينيات .. لكن أهمية ذلك الدخل ليس فقط في تأمين مستلزمات الطاقة الفلسطينية وتخليها عن الاعتماد عن إسرائيل التي تفرض على الفلسطينيين شراءها بسعر السوق الإسرائيلي .. بل يعني استقلالا اقتصاديا بكل معنى الكلمة بل وتحول فلسطين إلى دولة مصدرة للغاز بما يعزز حضورها الدولي ويخفف من وطأة الدول المانحة محررا الشعب الفلسطيني من تبعية اقتصادية لها أثمانها السياسية بلا شك والتي تلعب دورا في تخفيض السقف الفلسطيني سواء بالمفاوضات أو حتى بالعمل مع دول العالم.
منعت الانتفاضة الفلسطينيين من التقدم في استغلال تلك الثروة التي وصفها عرفات بأنها "هبة الله لشعبنا" وكانت تلك فرصة لإسرائيل لإعاقة العمل بالمشروع حتى جاء أرئيل شارون رافضا شراء الغاز من الفلسطينيين وكأنه يعتبر أن هذا من حق إسرائيل .. لا يتصور أحد أن يمكن شارون وحلفاؤه الفلسطينيين من استخراج الغاز بما يمثله من قوة اقتصادية وسياسية هو أمر مريح لإسرائيل، بل أنها عملت بكل الطرق على عرقلتهم بل وبدأت تتفاوض معهم على شراء المتر المكعب بدولارين أي أقل من ثلث سعره المعتاد ولم تكن أكثر من مماطلة لحرف أنظارهم عن التفاوض مع مشترين آخرين.
إسرائيل بدءا من هذا العام ستصبح دولة منتجة ومصدرة للغاز وهذا كان يستدعي مبكرا "تبكيت" الغاز الفلسطيني وعدم خروجه من تحت الأرض وخاصة أن أحد الحقول الفلسطينية على الحدود المشتركة بين قطاع غزة وإسرائيل ولا نعرف إذا كان بإمكان إسرائيل سرقته أم لا لكن الأهم بالنسبة لها عدم تمكينهم اقتصاديا وعدم السماح لهم بالمنافسة في سوق الغاز العالمية.
في العام 2006 كانت شركة الغاز البريطانية "بريتش غاز" وهي الشركة التي تملك حق البيع على وشك توقيع اتفاق مع مصر لضخ الغاز إلى محطتين في العريش لتحويل الغاز إلى مسال ليسهل نقله وبيعه إلى دول في شرق آسيا، ويعزو الدكتور مايكل تشودوفسكي كل السلوك الإسرائيلي تجاه غزة إلى مسألة الغاز وكل ما حصل أيضا، وهذا ربما يعيد منطق التفكير بما حدث ويحدث من منظور جديد فكما أن الأزمة في سورية هي أزمة غاز بالأساس لمد أنبوب الغاز القطري عبر سورية واضح أن لأزمتنا بعدا مشابها وهناك من أخذنا بشعارات بعيدة تماما عن الملف الحقيقي.
هنا تساؤلات المنطق لماذا قطر دولة الغاز هي الدولة التي لعبت الدور الأكبر في انقسام الفلسطينيين، هكذا اتهمتها حركة فتح في بدايات الانقسام مستندة إلى زيارة وزير الخارجية آنذاك حمد بن جاسم لقطاع غزة وتحدثت عن دور تحريضي قام به الرجل بدفع حركة حماس لأن تقوم بما قامت به، والسؤال الآخر بعد اكتشافات الغاز في إسرائيل لماذا "تم استهداف خطوط الغاز في سيناء" بالتأكيد فلسطين لن تنافس قطر في الغاز. ولكن نحن أمام دولتين، واحدة من أكبر الدول المصدرة والأخرى إسرائيل ستبدأ بالتصدير.
هل هذا كفيل بتفسير الانقسام الفلسطيني؟ فالشكل القائم في قطاع غزة يعتبر نموذجيا لإسرائيل، فوجود السلطة هنا في غزة يمكن الفلسطينيين من بيع الغاز وعقد الاتفاقيات التجارية الدولية، لكن سيطرة "حماس" بهذا الشكل تمنع وبشكل قاطع وهذا ما أدركته شركة "بريتش غاز" التي أغلقت مكاتبها في تل أبيب في كانون الثاني 2008 هذا النموذج يبرر لإسرائيل السيطرة على المياه المحاذية لغزة التي تحتوي على آبار الغاز الفلسطينية باسم حماية الأمن الإسرائيلي وتواجد دائم للبوارج الحربية الإسرائيلية لاحتلال تلك الآبار.
ارتباطا بذلك هل يمكن أن نفسر ما حدث بغزة قبل عشرة أعوام؟ فالمصلحة الإسرائيلية تطلبت طرد السلطة من غزة وأن تحكمها قوة لا تعترف بإسرائيل ولا تفكر بمفاوضات معها وتبقى غزة غير معرفة لا قانونيا، هذا الوضع لا يسمح لها بالاتصال بدول أو بشركات وفقط ينحصر اتصالها الوحيد بدولة قطر منتجة الغاز فهل كان كل ذلك مصادفات تاريخية؟ نتيجتها الوحيدة منع غزة والسلطة من استخراج الغاز.
وإذا ما كانت تلك المصادفات عملا مخططا له إسرائيليا فإن دلالته تبدو أكثر خطورة حيث المصلحة الإسرائيلية تتطلب إبقاء هذا الوضع وإبقاء غزة منطقة خارج غلاف السلطة الوطنية طويلا، حيث يجري الحديث عن أن آبار الغاز الإسرائيلية "تمار وليفيثان" بحاجة إلى ثلاثين عاما للنضوب فهل هذا يعني استمرار الانقسام لثلاثة عقود أخرى؟ فالانقسام الذي استمر عقدا مرشح للاستمرار ثلاثة أخرى وها هي غزة لا تشكل مشكلة للعالم، يراقبها الإسرائيلي بهدوء يسمح لها بالحياة بالحد الأدنى مشغولة بالتفاصيل، المهم بالنسبة لإسرائيل هو عسكرة الخط الساحلي بأكمله والبحر والسيطرة على آبار الغاز الفلسطينية ومنع تصديره.
الأسئلة الخطيرة التي يطرحها الدكتور مايكل تشودوفسكي هل المسؤولون في "حماس" وفي الضفة الغربية على علم بهذا المخطط الإسرائيلي لاختلاس حق الشعب الفلسطيني في حقول الغاز البحرية المقابلة لشواطئ غزة والتي سبق أن تم إقرار أحقيتهم بها في عهد الرئيس عرفات؟ وما مدى إسهام المواقف الراهنة التي يتخذها كل طرف في إحباط أو إنجاح المخطط الإسرائيلي؟ ثم يواصل قائلا: نطرح تلك الأسئلة خاصة وأن كل الأطراف لم تتحدث في أي لحظة من اللحظات عن هذا الحق التي يتم سلبه علانية من الشعب الفلسطيني بعد ان نجح في الحصول عليه بعد سنوات طويلة من مقاومة الاحتلال.
أسئلة على درجة من الأهمية يجيب عليها فشل اتفاق الدوحة والفشل المتكرر، الأهم أننا أمام مستوى من القيادات التي تغامر بنا وتحرمنا بعبثها من حقوقنا الطبيعية من أكثر من 6 مليارات دولار سنويا وبدل ذلك تحول شعبنا إلى فقير متسول .. ألا تطرح هذه المعادلة أسئلة أكثر خطورة عن مسار مشروع إسرائيل بالغاز .. وعن من يحكمنا بهذا المستوى من الجهل؟
المقال يعبر عن رأي كاتبة