شمس نيوز/ كتب: زياد عيتاني
ارتاب الجنديّ الإسرائيليّ في والدي، اقترب من السيارة وسأله بلهجة عربية مكسرة: "أنت أكيد لبناني؟ اعطيني البطاقة". كانت بشرة أبي، شديدة السمرة، موضع شك لدى جنود الاحتلال الذين توزعوا في بيروت بعد اجتياحها عام 1982. وصلنا بعد تحقيق سريع إلى منطقة فردان. كنت في السابعة من عمري، وأذكر أننا دخلنا شقة رجل عراقي يتمتم قائلاً: "الحمد لله ع سلامتك يا أبو رياض، مي للولاد.. أجيب مي للولاد".
تلك اللحظة التي لا تفارق ذاكرتي، كانت أبعد من ذاك المشهد بكثير. اكتشفت بعد أشهر قليلة أنها لحظة هروبنا من إحدى أكبر المجازر. اكتشفت أننا نجونا من مجزرة صبرا وشاتيلا، أنا ووالدي واخي الاكبر واختي التي وضعت إصبعها في فمها، باكية طوال الطريق. محمود وحسن، لم يتسنَّ لهما الهرب.
كان محمود في الثالثة عشر من عمره. الحاج البيروتي، اليوم، يجلس في القهوة يومياً عند الغروب. يشرب كوب شاي بصمت مراقباً أصدقاءه وهم يلعبون الورق. عينا محمود ترتجفان عند كل صوت قوي: "هذه آثار المجزرة عليّ"، قال الحاج وتنهّد مطوّلاً.
كان يعاين خزانات المياه التي بقيت سليمة رغم آثار القصف، فلاحظ القنابل المضيئة تشعل الليل. لجأ إلى شقة في الطوابق السلفية، وكان درج المبنى معتماً. كاد أن يتعثر عدة مرات عندما سمع صوت امرأة تركض في الشارع: "عم بيقتلونا.. عم بيدبحونا". دخل شقة كان بابها قد خُلع بفعل الصواريخ التي انهمرت على الحي. خمد صوت الرصاص، فحاول التلصّص عبر الشرفة. صوت صراخ بعيد: "من هون.. من هون". سمع محمود أصوات مسلحين يصرخون باتجاه المبنى. "بقولوا يلّي إلو عمر ما بتقتلو الشدة يا ابني. أنا يا ريتها قتلتني الشدة"، يقول الرجل ثم يكمل: "لاحظت أن علّية صغيرة تقع فوق حمام الشقة. كانت العلّية صغيرة لدرجة أنها لا تتسع لأكثر من سخان مياه. لكنني طويت جسدي بطريقة لا أعرف حتى الآن كيف أصفها. دخلت مساحة صغيرة بين السخان وحائط العلية. تنبّهت أن أنفاسي مسموعة بفعل التعب، لأن الشقق الخالية تصبح مسرحاً للصدى. خفت من صدى صوت أنفاسي. دخل المسلحون وكانوا لبنانيين، لم ألمح وجوههم. كان رأسي باتجاه الحائط الداخلي للعلية وبابها باتجاه قدمي. سمعت كيف تباهوا بقتل الناس. كانت رائحتهم أقذر من رائحة الموت في اليوم الثاني. خرجوا عند الفجر، وبقيت في العلية أكتم انفاسي. أنا شاهد على مجزرة بواسطة السمع. سمعت الصرخات والرصاص والآليات وشتائم القَتَلة. أنا لم أشهد على المجرزة، لكنني ورثت منها الرعب".
يحكي حسن، الذي بقي هو الآخر في ملجأ. الرجل الخمسيني، اليوم، يحكي بلا مبالاة دون أي أثر للخوف على عكس الحاج محمود، لكن لهجة الرجل عصبية. يؤكد بأن الاسرائيليين شاركوا في عمليات القتل. روى حسن أن الليلة ابتدأت بإغلاق المدرعات الاسرائيلية نوافذ المنطقة. بضعة مسلحين من أبناء المخيمين الفلسطينيين أدركوا أن ثمة اقتحاماً سيحصل فأشاعوا الخبر. ما إن سمع الناس بذلك حتى ركضوا باتجاه ما يُعرف بجامع عبد الناصر، حيث همّوا بالخروج من طريق الجديدة. ردّتهم المدرعات والرصاص الاسرائيلي . قال حسن إن الاتجاه الثاني الذي حاولت سلوكه مع الناس كان باتجاه طريق المدينة الرياضية. لكن قناصة إسرائيليين وقفوا خلف المباني المقابلة.
هنا، عدت أدراجي باتجاه الملجأ وأقفلته مع صبي صغير لا أعرف كيف وصل معي. أذكر تماماً أنني سرت بين الجثث حين عدت. بقيت هناك لأكثر من 24 ساعة أحاول أن أسأل الصبي عن أهله. فهمت أنه من مخيم شاتيلا واضاع عائلته خلال هروبها من "الكتائب"، كما قال. عدت لسؤال أبي، قبل سنوات، عن المجرزة، كيف هربنا؟ والدي كان ابن مخيم صبرا. كان مقاتلاً سابقاً في منطقة العرقوب على الحدود اللبنانية ـ الفلسطينية. أجابني حينها أنه بعد اغتيال بشير الجميل، أدرك أن ثمة خطورة على الفلسطينيين المكشوفين بعد انسحاب المقاتلين، وبأن حركة المدرعات الاسرائيلية الكثيفة صباح يوم المجزرة كانت غريبة. هربتُ بكم عند صديقي العراقي. وحين سألني ماذا يحصل، قلت لهم حينها: الليلة هي ليلة دم.. الليلة ستكون الاصعب في تاريخ البلد. حسن، بدوره، خرج والصبي بعد دخول سيارات الإسعاف الى المنطقة. كانت المجزرة قد انتهت. أخذ المسعفون الصبي واعدين بإيجاد أهله.
لم يعرف حسن بعدها عنه أي شيء. وقف أمام جرافة تفتح الارض بأسنانها الحديدية لسيل من الجثث التي ألقيت في حفرة ضخمة. الحاج محمود رُزق بـ5 أولاد، يحكي أنه حين وضعت زوجته مولودها الأخير، نظر إلى العلية واستعاد تفاصيل تلك الليلة. خاف كثيراً أن لا تتّسع العلية لعائلة من 7 أفراد. تدمع عينا محمود ويقول: "أنا أيضاً قتلتني مجزرة صبرا وشاتيلا. أنا أسيرُ خوفٍ كهذا يا ابني. أنا بانتظار موت قد يأتي مجدداً في أيام كهذه عن طريق مجزرة. أنا شهدت صبرا و شاتيلا بأذني لا بعيني، وأخاف. لا أجيد فعل شيء إلا الخوف. الخوف أشد من القتل حين نحكي عن صبرا وشاتيلا".