غزة

19°

وكالة شمس نيوز الإخبارية - Shms News || آخر أخبار فلسطين

خبر "محمد" و"ساجد".. حكاية السر الذي ابتلعه البحر

شمس نيوز/علي الهندي

"اثنان من أعزّ أصدقائي تقف كلماتي عاجزة في وصفهم، هما من خيرة من عرفتهم عن قرب أدباً وعلماً وثقافة وخلقاً راقياً، أصحاب همّة عالية، أنموذجاً للإخلاص والتفاني في الأعمال والأنشطة المجتمعية"، بهذا الوصف يتحدث محمد شمعة، راثيا اثنين من أعز أصدقائه تقطعت بهم السبل واختفت أخبارهما في لجى البحر بعد أن ركبا الموج بحثا عن العلم واكمالا لحياتهما الدراسية الجامعية.

"محمد الرنتيسي" و"ساجد حماد" شابان يانعان جمعهما الطموح والسعي لطلب العلم وتقديم الخدمة للوطن وبناء حياة أفضل, جمعهما كل ذلك في ظل حصار خانق على غزة واحتلال يتقن تدمير الأحلام، لكن في قاموسهما لا مكان للاستسلام، لكن قدر الله أن يجتمعا في عرض البحر على سفينة صغيرة, ليكملا حلمهما الكبير، فأصبحا اليوم من المفقودين في فاجعة غرق السفينة التي كانت تقل مئات الفلسطينيين وكانت ضحية عصابات الموت والمهربين بالقرب من الشواطئ الإيطالية.. محمد وساجد أصدقاء العمر في الجامعة والعمل والسفر وفي الشهادة على عالم ظالم كان السبب في كل ما حصل لهما!.

محمد.. الشاب الطموح!

"لم تكن طفولة أخي محمد كباقي الأطفال ..كان رجلا منذ طفولته وكان له بصماته الواضحة في مسجد المحطة".. بهذه الكلمات يستذكر يوسف الرنتيسي أخاه الأصغر "محمد" الذي أنهى الثانوية العامة والتحق بالكلية الجامعية ليكون من أعضاء الكتلة الإسلامية ومجلس الطلاب.

ويضيف الرنتيسي لـ"شمس نيوز": أنهى محمد دراسة البكالوريوس في الإدارة التكنولوجية ليلتحق بعدها بالعمل في فضائية الأقصى ومن ثم في المكتب الاعلامي لحركة حماس في منطقة التفاح، وبعد أن انتهى عمله في هذه المؤسسات بدأ يفكر بالسفر لألمانيا لإكمال الماجستير والدكتوراه في مجال الإعلام، وكان يطمح أن ينجز نقلة نوعية في إعلام الحركة الإسلامية.

ويردف بالقول: توجه أخي بطلب رسمي لسفارة ألمانيا بعد حصوله على قبول من جامعة ألمانية وأتم دورات اللغة الألمانية التي أصبح يجيدها بعد عام كامل، وبعد أن أنهى كل الاستعدادات، وأتم المقابلة في السفارة الألمانية، جاء الرفض من السفارة في "تل أبيب" والسبب معروف لدينا وهو انتماؤه للحركة الإسلامية!.

ويكمل يوسف سرد قصة أخيه بالقول: قبل الحرب الأخيرة وخلالها عمل في شركة سجايا الإعلامية مع صديقه ورفيقه في هذه الرحلة ساجد حماد، بدءا يخططان لتوسيع الشركة وتطويرها، إلا أن الاحتلال دمر أحلامهما بقصف مقر الشركة الكائن في برج الباشا.

وبعد انتهاء الحرب ، لا وظيفة ، لا عمل ، قصف الحلم ، ممنوع من السفر بالطرق الرسمية فأنت إسلامي مغضوب عليك، لا مفر الى عبر رحلة البحر بالأمر الواقع للدراسة والعودة فورا للوطن!

أما محمد شمعة، صديق محمد الرنتيسي وزميله في الدراسة، فيتحدث عنه بالقول: محمد كان رفيق الدراسة ومن أوائل من تعرفت عليهم في المرحلة الجامعية، سمتُه الهدوء، لكن بداخله طاقة خفية عظيمة تجعل كل حلم بعيد منه قريبا، فلا مكان للمستحيل في قاموسه".

ويضيف شمعة واصفا الأيام الأخيرة لصديقه محمد: فاجئني بحديثه قبل تخرجنا بشهرين أنّه يفكر جدياً في إكمال الدراسات العليا في ألمانيا ويسعى للسفر بأقرب فرصة، وقد بدأ وقتها برسم خططه القادمة، لم يكتفِ بكونه ذاك الشاب الطموح بل كان يعرف ما الذي يريده بالتحديد وكيف يمكنه تحقيقه حسب رؤية واضحة، كان أثناء دراسته للبكالوريوس يعمل بعقد جزئي في إحدى المؤسسات الإعلامية، وبعدما أنهى مرحلة البكالوريوس أفنى جهوداً مضنية في البحث عن فرصة العمل التي ترضي طموحه، لكن للأسف كحال الكثيرين من الخريجين في غزة لم يجدها، ليبدأ بعدها في السير بشكل رسمي بالإجراءات والترتيبات المطلوبة للسفر والدراسة في ألمانياً بمجال "العلاقات الخارجية" الذي أحبه كثيراً، كان مواظباً على حضور دروس تعلم اللغة الألمانية وقام بجلب العديد من الكتب ذات الصلة في مجال اختصاصه لإثراء معلوماته، وقام بالتواصل مع العديد من أصدقائه المتواجدين في ألمانيا ليستعلم عن كافة تفاصيل المعيشة والثقافة السائدة هناك والأوراق اللازمة لنيل قبول الجامعة، هنا أتذكر أنه عانى أيّما معاناة وصبر شهوراً دون الحصول على موافقة السفارة لتأشيرة السفر! لم يكن وقعُ الرفض عليه بالأمر السهل لكنّه بدأ بالتحضير مع صديقنا ساجد لتأسيس شركة إنتاج إعلامي".

ساجد.. العازم على تحقيق الحلم!

إكمال الدراسات العليا كان أحد أحلام ساجد الغالي، ولكن ليس أولها...كان دائما يقول: بمجرد أن تقف شركتي سجايا على أقدامها، سأنطلق لتحقيق حلمي في الدراسة إن شاء الله، بحيث أكون قادرا على متابعة شركتي وأنا أدرس، بهذه الكلمات تستذكر نور حماد شقيقها ساجد الذي قرر أن يشق البحر لإكمال دراساته العليا.

وتكمل حماد حديثها لـ"شمس نيوز" بالقول: ساجد لديه مهارات قيادية متنوعة، يتقن التخطيط الاستراتيجي وإعداد المشاريع وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، لديه خبرة في إدارة المؤسسات والجمعيات، وكان عضو مجلس إدارة في أكثر من مؤسسة، وهو مدرب معتمد في مجال التنمية البشرية".

وتضيف: ساجد كان شابا نشيطا تشع منه الطاقة الإيجابية والمنتجة في جميع المجالات، لا يعرف اليأس أو الاستسلام، يسعى لخدمة الجميع ويحبه الجميع لأخلاقه العالية وسعة صدره واجتهاده الكبير.

وتردف بالقول: بعد أن تقدم للعمل عند أكثر من جهة ولدى الحكومتين ولم يحصل على فرصة عمل قام بتأسيس شركته الخاصة وهي شركة سجايا للإنتاج الإعلامي، ليتم تدمير الشركة في قصف برج الباشا خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة.

وتضيف حماد: بعد قصف شركة سجايا في برج الباشا، لم يعد لها قدم تقف عليها، فقرر أن ينطلق لتحقيق حلم الدراسة العليا ليستلهم أملا جديدا في إعادة بناء شركته بعد عودته بإذن الله، وكان قد رتب لمنحة لدراسة الماجستير في تركيا، وقبول من جامعة في ألمانيا حاول الخروج من خلال المعبر هو وصديقه محمد الرنتيسي الذي كان ذاهبا لدراسة الماجستير في ألمانيا، ليتم منعهما من المرور.

تقول "نور": ساجد أخي لم يقبل أن يجلس عاجزا بجانب ركام شركته ينتظر المساعدات، كعادته بحث عن الحلول، وبعد تحرٍ وتدقيق انطلق هو وصديقه محمد، ولجئا للطريقة الوحيدة البديلة المتاحة، وهي السفر عبر البحر.".

أما محمد شمعة صديق ساجد وزميله في العمل فيقول: كنت قد تعرفت على الصديق العزيز ساجد أثناء عملنا في نفس المكتب لعدة شهور، وأعتبر صداقة أمثاله هي كنزٌ ثمين قلّما يتكرر، رغم حداثة سنّه لكن ثقافته الواسعة وتجاربه في الحياة جعلت منه ذلك الحكيم الذي تلجأ إليه وتطلب مشورته كلما ضاقت بك الأمور".

ويضيف لـ"شمس نيوز": ساجد كانت أحلامه أوسع من أن تضيق في إطار واحد تحده القيود والقوانين، فبدأ بالتفكير مليّاً في إنشاء مشروعه الخاص، سافر إلى تركيا لجلب المعدات اللازمة لذلك وعاد إلى غزة وجهز كل شيء، فقام بتأسيس شركة "سجايا " للإنتاج الإعلامي، لا أنسى في أول زيارة لي للشركة كم السعادة التي بدت على وجهه وهو يحدثني عن إنجازه العظيم الذي عقد كل آماله عليه ليشق طريقه في معترك الحياة كأي شاب يحلم بحياة كريمة حيث علمت مؤخراً أنه كان يحضر نفسه للزواج.

ويكمل شمعة بالقول: لكن من المؤسف أن حلمه الجميل لم يكتب له الاستمرار بعد أن قصف الاحتلال الصهيوني البرج الذي يحوي مقر الشركة آخر أيام الحرب!

حينها لم يكن أمام ساجد ومحمد أي خيارات أخرى سوى البحث عن طريقة تمكنهما من استعادة ما فقداه، فعقدا عزمهما على تحقيق حلمهما بالدراسات العليا بالخارج ليستلهما أملاً جديداً في إعادة بناء شركتهم بعد عودتهما، لكن وبسبب الحصار الخانق وإغلاق المعابر اختارا الطريقة الوحيدة البديلة المتاحة أمامهما في ظل وعودات وردية، وكان خيارهم هو شقّ طريق الهجرة عبر القوارب للوصول إلى تركيا، حتى باتا في النهاية من ضمن المفقودين بعد غرق مركبٍ أقلّهم مع مئات آخرين في عرض البحر وانقطع بهم الاتصال ولا أحد يعلم مصيرهم إلى الآن.

نهاية القصة!

أما عن فصول النهاية أو ما عرف منها وإن لم تكن دقيقة كون الأخبار شحيحة، فيقول يوسف الرنتيسي شقيق محمد: بعد أن وقع الحادث وظهرت أسماء الناجين وصلت لأرقامهم جميعا وتواصلت معهم وأفادونا بالتالي:

كانت الرحلة جيدة وكانوا على أعتاب الوصول لإيطاليا بعد الإبحار لمدة أربعة أيام، وكان أخي محمد ينادي بلقبه وهو "أبو خالد الرنتيسي" وكالعادة كان مرحا مشجعا لمن في الرحلة وكان يشتهر بأبو خالد المصور حيث كان يصور كل حدث خلال الرحلة الى أن انتصف نهار يوم الأربعاء المشئوم حيث اعترض قاربهم مجموعة من القتلة المصريين عددهم 6 أشخاص قاموا بصدم المركب وقلبه فتناثر الركاب من نساء وأطفال ورجال وشباب في مياه البحر" .

وأضاف يوسف: في البداية كان الجميع على قيد الحياة لأنهم يرتدون سترات النجاة، فتشبثوا ببعضهم وبدأت أصوات الأدعية وقراءة القران تسمع من جميع الأرجاء، باتوا تلك الليلة وهم عائمين على سطح الماء ليبزغ الفجر على فاجعة غرق الأطفال والنساء نتيجة الإرهاق وارتفاع الأمواج".

وتابع: خلال اصطدام المركب بقارب المهاجرين تعرض ساجد حماد للإصابة فتشبث به أخي محمد وحافظ عليه وسانده، بدأ الشباب بالسباحة، وخلالها بدأوا يتساقطون واحدا تلو الآخر نتيجة الإرهاق والتعب والجوع والعطش".

ويضيف الرنتيسي: أفاد الناجون أن محمد من القلائل الذين كان معهم تمر وماء بعد سقوط المركب وقد كان يوزع التمر على الناجين خلال سباحتهم، واستمر في السباحة لأربعة أيام متواصلة ليلا ونهارا وهو متشبث بصديقه المصاب ساجد ويقوم بسحبه معه إلى أن بدأ يتعب ويفقد وعيه تدريجيا، فأوصى بعض الناجين على ضرورة إخراج هاتفه المحمول من ملابسه لأنه يحتوى على تسجيلات صادمة تظهر تفاصيل المجزرة التي حدثت لركاب القارب حيث قام أخي بتصوير فيديو لوجوه وشخصيات القتلة المجرمين وكذلك تسجيل كامل الرحلة وأوصى بإعطائها للشرطة لمحاسبة القتلة".

"بعد ساعات قليلة من تعب أخي محمد وتراجعه على المجموعة التي كان معها، مرت باخرة من المكان أنقذت ثلاث من الناجين فقط ولم يتم إنقاذ أخي وصديقه ساجد" يقول الرنتيسي.

ويكمل حديثه: للأسف لم تتحرك أي دولة لإنقاذ الناجين ولم تخرج إلا سفينة إنقاذ لجلب الجثث ولم يحرك أحد ساكنا، تركوا أخوتنا وأهلنا يصارعون الموت في مشهد مرعب"

ويؤكد يوسف أنه وحتى الآن لم يعثر على جثث ولا على ناجين ولم يعرف مصير أحد عدا عن الناجين الثمانية الذين أحياهم الله ليروا بأعينهم مجزرة حدثت لأطفال ونساء ورجال غزة في قعر البحر الابيض المتوسط".